بقلم: بشير عبد الفتاح قراءات شتى يمكن من خلالها فهم طبيعة الصراع المحتدم هذه الأيام بين رئيس الوزراء التركي وزعيم حزب العدالة والتنمية الحاكم رجب طيب أردوغان، وحليفه القديم وغريمه الجديد المقيم في أميركا فتح الله غولن زعيم (حركة الخدمة) الصوفية ذات التوجهات التربوية والتعليمية التي لا تنتشر فقط داخل تركيا ويتغلغل رجالاتها في قضائها وشرطتها وإعلامها، وإنما تتجاوز حدودها لتشمل عشرات الدول حول العالم. بيد أن قراءة تحليلية متعمقة تتجاوز حسابات الصراع السياسي الضيق والمنافسة الانتخابية الآنية تفصح عن أن الصدام الراهن بين أصدقاء الأمس وفرقاء اليوم الذين يستظلون معا بمظلة الحركة الإسلامية في تركيا -وإن بمستويات مختلفة ومرجعيات وآليات مغايرة نسبيا- إنما يؤشر لتحول تاريخي ومفصلي بمسار تلك الحركة يتجلى في الانتقال من حقبة الإسلام السياسي بصوره التقليدية المنتشرة في أغلبية ربوع العالمين العربي والإسلامي إلى ما يمكن الاصطلاح على تسميته ب(ما بعد الإسلام السياسي). بحلول تسعينيات القرن الماضي بدت النخب الفكرية والثقافية حول العالم وكأنها على موعد مع ما يمكن وصفه ب(بيبلوغرافيا النهايات) وال(ما بعديات)، فمن (ما بعد الاستعمار) و(ما بعد الحداثة) إلى (ما بعد الصهيونية.. وغيرها، وصولا إلى (ما بعد الإسلام السياسي). وحتى فترة لم تكن بالقصيرة كان مراقبون كثر يظنون أن ذلك المصطلح الأخير إنما ينصرف إلى ارتباك أحزاب وجماعات الإسلام السياسي تنظيميا أو تراجعها سياسيا وانتخابيا، ومن ثم اعتبروا تعثر تجارب حكم تنظيمات وحركات إسلامية بدرجات متفاوتة كالتجربة السودانية ومن بعدها تجربة طالبان أفغانستان ثم حماس فلسطين وصولا إلى الإخوان المسلمين بمصر بمثابة أدلة دامغة على فشل الإسلام السياسي في التصالح مع قيم ومبادئ الديمقراطية والليبرالية والحداثة، علاوة على عجزه عن بناء دولة مدنية ديمقراطية، كما اعتبروا ذلك التعثر أيضا إيذانا بنهاية حقبة صعود الإسلام السياسي في المنطقة، والتي بدأت مع مفتتح سبعينيات القرن الماضي. وفي حين يعتبر إيرانيون كثر نجاح الثورة الإسلامية في بلادهم منذ عام 1979 انتصارا لمشروع الإسلام السياسي الشيعي، ذهب المفكر الإيراني آصف بيات في مقالته التي سطرها عام 1996 بعنوان (قدوم مجتمع ما بعد الإسلام السياسي) -التي ناقش خلالها مختلف الاتجاهات الاجتماعية ووجهات النظر السياسية والدينية بإيران ما بعد الخميني- إلى أن تعبير (ما بعد الإسلام السياسي) يمكن أن يطلق على عملية التحول الجوهرية والشاملة التي طالت مختلف حركات وتنظيمات وفصائل الإسلام السياسي على مستوى الأفكار والتوجهات والممارسات، من التشدد والتطرف إلى المرونة والاعتدال. وغير بعيد عن الطرح الذي ذكر آنفا، جاء إدلاء المفكر العربي صادق جلال العظم بدلوه في ما يخص الجدل المتصاعد بشأن (ما بعد الإسلام السياسي)، حيث قدمه على أنه وصول تيارات الإسلام السياسي إلى نقطة توازن حركي ومعرفي تتيح للإسلاميين -بشتى مشاربهم- نبذ الإسلام السياسي الأكثر تعنتا وغلوا وأصولية، والعودة إلى ما أسماه (الإسلام الشعبي) أو (التلقائي) الذي ارتآه الأكثر اعتدالا وتسامحا. ولما كانت ال(ما بعدية) في النظرية النقدية تنصرف بالأساس إلى نقد المرحلة السابقة ومراجعة ونقد ما قبل (البعدية) تمهيدا لبناء أو تأسيس مرحلة جديدة عبر البحث عن خيارات وسمات مغايرة، فإن (ما بعد الإسلام السياسي) من هذا المنطلق إنما يشير إلى وصول تيارات الإسلام السياسي إلى مستوى من النضج الفكري والتسامح السياسي يؤهلها للانتقال من التكفير إلى التفكير تمهيدا للقيام بمراجعة فكرية وممارسة النقد الذاتي والتخلي عن الادعاء بأنها تمتلك الحقيقة المطلقة. وهو الأمر الذي يخولها نبذ العنف وقبول الآخر الديني والفكري والسياسي والامتثال لقواعد وأسس الدولة المدنية الديمقراطية التي تقوم على فكرة المواطنة والانتماء والولاء للدولة الوطنية القطرية وترك مبادئ مشروع الإسلام السياسي العالمي المتمثل في أستاذية العالم، الخلافة، العالم الإسلامي.. إلخ. وفي ما يتصل بالحالة التركية، يرى الكاتب والمفكر التركي ممتاز أرتورك أن الإسلام السياسي التركي قد وقف على أعتاب مرحلة (ما بعد الإسلام السياسي) مرتين: تمثلت أولاهما في انخراط الإسلاميين في السياسة ووصولهم إلى سدة الحكم بعدما دلفت الحركة الإسلامية التركية ميدان السياسة على يد الأب الروحي لها الزعيم الراحل نجم الدين أربكان مطلع سبعينيات القرن الماضي عبر تأسيس أحزاب سياسية لم تتورع عن خوض الانتخابات والمشاركة في تشكيل الحكومات الائتلافية، حتى وصل بها المآل في عهد النسخة المعدلة التي مثلها حزب العدالة والتنمية إلى الاستئثار بتشكيل الحكومة والانفراد بكرسي الرئاسة. أما ثانيتهما فتجلت في فضيحة الفساد التي تعصف بحكومة أردوغان هذه الأيام، والتي يعتبر أنها دشنت إفلاس إسلاموية حزب العدالة والتنمية، ويعتبر أرتورك أن الصدام الحاصل اليوم بين جماعة (الخدمة) وحكومة حزب العدالة والتنمية إنما هو صراع بين الإسلام السياسي الذي ترسخت دعائمه في تركيا قبل نصف قرن مضى، والإسلام (المدني) أو (الاجتماعي) الذي يبشر به فتح الله غولن كبديل عن ذلك الأول. ففي ثنايا انتقاده الحاد لأردوغان ونهجه يبشر غولن بطبعته الجديدة من الإسلام الأكثر حداثة وليبرالية وديمقراطية، إذ يحاول من خلال (الإسلام الاجتماعي) أو (الإسلام المدني) تلافي مثالب وسلبيات الإسلام السياسي التقليدي، بطبعتيه الأربكانية والأردوغانية كما نسخته الإخوانية التي ضربت أطنابها في بلدان عربية وأعجمية شتى، بكل ما ينطوي عليه من توظيف للدين في السياسة وتداخل بين الدعوي والحزبي، أو الديني والسياسي، واتخاذ الديمقراطية وسيلة للوصول إلى السلطة والتمترس بها توطئة لإقامة الدولة الإسلامية. ويؤكد غولن أن حركته لا تسعى للانخراط في العملية السياسية ولن تعتمد الوسائط السياسية التقليدية كالأحزاب السياسية، كما لا تتطلع بالتبعية للوصول إلى السلطة وإنما هي فقط تسعى من خلال أدوات ضغط وتأثير مختلفة، من أبرزها وسائل الإعلام -بشتى صورها- لمطالبة السلطة الحاكمة بتحقيق وتطبيق حزمة القيم والمبادئ السامية التي تتوخاها الشعوب والمتمثلة في الديمقراطية والحرية والعدالة والمساواة واحترام حقوق الإنسان. وخلافا لأربكان وأردوغان، يشدد غولن على أنه لا ينشد إقامة الدولة الإسلامية، لأن لديه قناعة بأن بلوغ قيم الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وتطبيق العدالة الاجتماعية هو ما يحقق المجتمع الإسلامي في حياة البشر، كون هذه القيم والمبادئ -التي تبدو في ظاهرها منتجا فكريا وسياسيا غربيا ليبراليا- صنيعة إسلامية صرفة بالدرجة الأولى، حيث يرتكز (الإسلام الاجتماعي) أو (المدني) على التلاقح بين القيم الروحية للإسلام بعناصر القوة المعاصرة من علم ومعرفة، فضلا عن الفكر الصوفي المتحرر الذي يرتكز على الارتقاء بالروح وتزكية النفس بالعلم، تطلعا للخروج بالإيمان من جدران المساجد والزوايا إلى المجتمع ولكن من دون السقوط في براثن السياسة. كذلك يؤكد غولن أن مشروعه لا يعادي الآخر أو يفتعل أي خصومات أو مواجهات مع الغرب بقدر ما يحض على التعايش السلمي المشترك والاحترام المتبادل وقبول الآخر، لافتا إلى أنه يسعى إلى تحرير العلمانية التركية من تشددها وأصوليتها (الفرانكفونية) المناهضة للأديان والقوميات، وصولا بها إلى علمانية (أنجلوساكسونية) مرنة متصالحة مع الاختلاف والتنوع. غير أن المثير للاهتمام حقا في هذا المقام أن الولاياتالمتحدة مثلما احتضنت مشروع أردوغان ودعمته أثناء انشقاقه عن أستاذه أربكان وتأسيسه حزب العدالة والتنمية عام 2001 كنسخة ليبرالية يمينية محافظة وأكثر حداثة وعلمانية وتعايشا مع الغرب من أي حركة إسلامية أخرى في المنطقة، لم تتورع هذه الأيام عن مساندة (حركة الخدمة) التي يقودها الداعية الإسلامي التركي المقيم في بنسلفانيا فتح الله غولن، حتى في حرب تكسير العظام السياسية والفكرية التي بدأت ملامحها تطفو على السطح بينه وبين أردوغان ومشروعه منذ تفجر قضية الفساد الشهيرة التي ما برحت تزلزل تركيا وتلاحق الأخير وبعض أفراد حكومته وأسرته منذ 17 ديسمبر الفائت. ولعل الأميركيين -الذين خاب رهانهم على الأحزاب والقوى السياسية غير الإسلامية في المنطقة بمشاربها المتنوعة من ليبرالية ويسارية وقومية، والتي لم تبرأ بعد من أسقامها المزمنة ولم تتحرر من إسار الوهن والعجز السياسيين- قد باتوا مضطرين إلى مباركة التحول الذي تشهده الحركة الإسلامية التركية من الإسلام السياسي إلى (الإسلام المدني أو الاجتماعي)، أو إن شئت إلى (ما بعد الإسلام السياسي) طالما ظل حليفا طيعا ومستأنسا. بيد أن نتائج الانتخابات البلدية -التي شهدتها تركيا نهاية الشهر الماضي، والتي حقق حزب العدالة والتنمية خلالها فوزا غير متوقع وغير مسبوق في آن- ربما تجبر الأميركيين على مراجعة حساباتهم في هذا الصدد أو تحملهم على إرجاء مخططهم ومشروعهم الإحلالي إلى حين يتم الانتهاء من الاستحقاقين الرئاسي في أوت المقبل، والبرلماني خلال العام القادم اللذين يترقبهما الأتراك بشغف بالغ كونهما ينهيان حالة السيولة ويضعان اللمسات النهائية للمشهد السياسي التركي بكل أبعاده.