بُعث رسولنا صلى الله عليه وسلم بربيع القلوب وهو القرآن العظيم والذكر الحكيم، الذي كان يدعو ربه فيقول: (اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا). وهذا الربيع عاشت في ظلاله الأمة الإسلامية قرونًا تفتح به العالم، وتملأ به الكون، وتعمر به الدنيا رحمة وسلامًا وعدلاً وإنصافًا، ومشروع إنقاذ وحركة إصلاح لا تتوقف. وهذا الربيع العربي القرآني هو الذي أسقط كسرى الجائر من على عرشه، وأنزل قيصر الظالم من فوق كرسيّه، وحطّم أصنام الوثنية، وهشّم رؤوس الضلال، وأنهى عهود الاستبداد، وهو الربيع بحق؛ لأنه ربيع للقلوب، يطرد عنها همها وغمها وحزنها وكدرها، ويملؤها انشراحًا وسكينة ورضًا وطمأنينة، ويزرع في الصدور حدائق الأمل والبشرى وبساتين الفأل والفرح والأمن، ويبني في العقول قصور المجد والعزة والكرامة. إن الربيع النبوي لا يطلب إزالة حاكم مستبد ظالم من بقعة محددة فحسب، ولكنه يسعى لإزالة كل المستبدين، وإزاحة كل الظالمين، والمساواة والعدل بين عباد رب العالمين. إن ربيع القرآن يطارد في النفس الشك والشرك والشبهات والشهوات، ويغرس مكانها الإيمان واليقين والاعتقاد الصحيح والتسليم لأمر الله والرضا بقضائه والفرح بنعمته والصبر على أقداره والشكر على آلائه. الربيع النبوي فيه معالم الثورة العالمية ضد الأصنام والأزلام والأقزام، ودستور الربيع النبوي هو القرآن والسنة، وهو ربيع كل مسلم ومسلمة في كل زمان ومكان، وهو مطلب الجميع ومقصد الجميع، وأي نظام لا يقوم على الربيع النبوي نظام فاشل ومحبط وناقص، وأي فكرة لا تقوم على الربيع النبوي فكرة جائرة مزورة آثمة، وأي حركة تصحيحية إصلاحية -وإن زعمت ذلك- لا تقوم على الربيع النبوي نهايتها إلى البوار والدمار والنار: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 26]. نريد من إعلامنا ودعاتنا وكُتّابنا وساستنا أن يعيدونا إلى الربيع النبوي، وأن يحذو الربيع العربي حذو ذاك الربيع النبوي عقيدة وفكرًا ومنهجًا وعملاً وأخلاقًا وآدابًا. إن الربيع النبوي أعظم حدث وقع في التاريخ، وهو الذي غيَّر المسار الأممي لشعوب، وأثّر في دورة التاريخ، وقامت من أجله غزوات ومعارك، وأنتج هذا الربيع أممًا من العلماء والشهداء والحكماء والأدباء والفلاسفة والشعراء والأطباء وغيرهم من رموز حركة النهضة والتعمير والتنوير في تاريخ الإسلام العظيم. وأي مصلح أو مجدد أو إمام إنما اكتسب القبول والمكانة لانتسابه للربيع النبوي كالخلفاء الراشدين والقادة المصلحين وزعماء الإصلاح والتجديد كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل وابن تيمية والغزالي وابن عبد الوهاب، وغيرهم وسواهم إنما رحّبت بهم الأمة؛ لأنهم استفادوا من مدرسة ذاك الربيع المبارك.. وإنما عظم قدر خالد بن الوليد وموسى بن نصير وقتيبة بن مسلم والقعقاع بن عمرو وصلاح الدين الأيوبي ومحمد الفاتح ومن سار مسيرهم، وإنما حيّتهم الأمة بسبب انتمائهم الصادق لتعاليم الربيع النبوي، وكل من عادته الأمة الإسلامية شرقًا وغربًا من الأفراد والمجتمعات ليس إلا لأنهم خالفوا منهج الربيع النبوي كالقرامطة الباطنية والزنادقة الآثمين والملاحدة المشئومين والفرق الضالة التي عقّت مسيرة الربيع النبوي، وتنكّرت لنصوص هذا الربيع، وشوّهت الدلالة الصحيحة لآيات وأحاديث هذا الربيع المشرق الوضّاء. وكل من خالف أو عارض هذا الربيع النبوي باء بالإثم والخسران، ولفظته الأمة، وألغاه التاريخ، ونبذته الأرض، وتنكّرت له السماء، وكُتب في سجل المبعدين المطرودين: {أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [هود: 95]. والربيع العربي الآن استفاد جمهوره وغالبيته من الربيع النبوي، فحيّته غالب الشعوب؛ ولهذا صوّت الشعب العربي للإسلام، واختار الإسلام نظام حياة ودستور دولة بعد أن جرّب القوانين الوضعية الأرضية. ولا سواء بين دستور من رب العالمين، ودستور من الطين! وشريعة من أحكم الحاكمين، وشريعة أملاها عبد أصله ماء مهين: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 2].