فإن تعزية المسلم في مصابه مستحبة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من عزى مصاباً فله مثل أجره) رواه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي غريب. وقوله: (من عزى أخاه بمصيبة كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة) رواه ابن ماجه. واختلف أهل العلم في وقت التعزية، فذهب بعضهم إلى أنها تكون قبل الدفن، وبه قال أبو حنيفة والثوري لقوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا وجب فلا تبكين باكية) أخرجه مالك والشافعي وأحمد وأبو داود. وقيل في المراد بالوجوب: إنه هو دخول القبر كما وقع في رواية عند أحمد لأن وقت الموت هو وقت الصدمة الأولى، والتعزية تليه فينبغي أن تكون التعزية في وقت الصدمة التي يطلب الصبر عندها، وقيل في معنى الوجوب: إنه هو الموت، وهو الراجح من أقوال أهل العلم، لثبوت هذا المعنى في عدة أحاديث أخر. ففي سنن أبي داود والنسائي وابن حبان: قالوا: (وما الوجوب يا رسول الله؟ قال: (الموت)). والمقصود بالبكاء المنهي عنه هو: البكاء مع رفع الصوت، وهو النواح. فقد روى أحمد في مسنده عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكن ونعيق الشيطان) ثم قال: (إنه مهما كان من العين والقلب فمن الله عز وجل، ومن اليد واللسان فمن الشيطان) وعن أنس قال: (شهدنا بنتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على القبر فرأيت عينيه تدمعان) رواه البخاري. وذهب الجمهور إلى أن التعزية تكون بعد الدفن لانشغال أهل الميت بتجهيزه، وتكون قبله كذلك إن ظهر من أهل الميت شدة جزع قبل الدفن، فتعجل التعزية لذلك. والمستحب عقب الدفن أن يقام على القبر، ويدعى للميت بالتثبيت، كما روى أبو داود في سننه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان إذا دفن الرجل من أصحابه يقوم على قبره) ويقول: (سلوا له التثبيت فإنه الآن يُسأل)، ويكون دعاؤه له وهو واقف، لما رواه سعيد بن منصور عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يقف فيدعو). وأما وقوف قرابة الميت صفاً، ومجيء المشيعين لتعزيتهم بعد دفن ميتهم فلا حرج في ذلك لبلوغ المقصود به وهو التعزية وهذا أيسر عليهم جميعاً، وكيفما حصلت التعزية صحت. قال الشافعي رحمه الله: (والتعزية من حين موت الميت في المنزل، والمسجد، وطريق القبور، وبعد الدفن، ومتى عزى فحسن، فإذا شهد الجنازة أحببت أن تؤخر التعزية إلى أن يدفن الميت... ويعزى الصغير والكبير والمرأة، إلا أن تكون شابة فيقتصر في تعزيتها على محارمها.انتهى). وليس الوقوف لتلقي العزاء بعد الدفن من الاجتماع للتعزية الذي كرهه بعض أهل العلم. قال الشيرازي في المهذب: (ويكره الجلوس للتعزية لأن ذلك محدث، والمحدث بدعة). وفي الجلوس لها تجديد للأحزان. وقد روى أحمد عن جرير قال: (كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة). وفي حصولها بعد الدفن على المقابر أبلغ أثر، وهو أمنع لتجدد الأحزان. ولا يشرع لمن عزى بعد الدفن أو في أي وقت تكرار التعزية، لقوله صلى الله عليه وسلم: (أعظم العيادة أجراً أخفها والتعزية مرة) رواه البيهقي في شعب الإيمان عن جابر بن عبد الله ورواه البزار في مسنده عن علي رضي الله عنه وفيه ضعف.