الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد: فإن من أجل العبادات، وأعظم القربات، عبادة عظيمة، ومنقبة كريمة، تكتب بها الحسنات، وتمحى بها السيئات، وترفع بها الدرجات، وينال بها رضا رب البريات جل جلاله. إنها المحافظة على الأذكار، بالليل والنهار، فإنها من صفات العباد الأخيار، المؤمنين الأبرار، سيما ما ثبت عن النبي المختار صلى الله عليه وسلم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (لا ريب أن الأذكار والدعوات من أفضل العبادات، والعبادات مبناها على التوقيف والاتباع لا على الهوى والابتداع، فالأذكار والأدعية النبوية هي أفضل ما يتحراه المتحري من الذكر والدعاء، وسالكها على سبيل أمان وسلامة، والفوائد والنتائج التي تحصل لا يعبر عنه لسان، ولا يحيط به إنسان، وما سواها من الأذكار قد يكون محرما وقد يكون مكروها، وقد يكون فيه شركا مما لا يهتدي إليه أكثر الناس وهي جملة يطول تفصيلها)(مجموع الفتاوى)(22/510). ولقد وردت النصوص الكثيرة والعديدة في فضل ذكر الله تعالى، ونكتفي بآية وحديث: قال الله تعالى:(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) [البقرة:153]. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبِّئُكم بخير أعمالِكم، وأزكاها عند مَليكِكم، وأرفعها في درَجاتِكم، وخيرٌ لكم من إنفاق الذهبِ والورِق، وخيرٌ لكم من أن تلقَوا عدوَّكم فتضرِبوا أعناقَهم ويضربوا أعناقَكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله) رواه الترمذي وابن ماجة، وصححه الألباني. ومن الأحاديث العظيمة في هذه الباب ذكر من الأذكار، وردت فيه فضائل كبار، ومزايا غزار، وهو قول القائل: (رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلاَمِ دِيناً، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً): 1 / غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ: عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: (مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا، غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ) رواه مسلم. 2 / وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ: عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ قَالَ رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ). 3 / ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ: عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ (ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً) رواه مسلم. 4 / كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُرْضِيَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- (مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَقُولُ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِى ثَلاَثَ مَرَّاتٍ رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِيناً وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا إِلاَّ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُرْضِيَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) رواه أحمد، و أبو داود والترمذي. معنى رضيت بالله ربا، بالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا: قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: وقوله صلى الله عليه وسلم: (رضي بالله ربا) يشمل ربوبية الشرع، وربوبية القدر. فربوبية القدر: أن يرضى بقضاء الله تعالى و قدره، له أو عليه. وربوبية الشرع: أن يرضى بشرع الله تعالى؛ أمرا كان أو نهيا. والناس بالنسبة للأول و هو الربوبية القدرية كلهم راضون، حتى لو سخطوا لا يجدون فكاكا منه، أما ربوبية الشرع، فمنهم من يرضى، ومنهم من لا يرضى. و قوله: (بالإسلام دين): يخرج جميعا الأديان سوى الإسلام؛ لأن غير الإسلام غير مقبول عند الله؛ قال تعالى:(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران:85]. وقوله: (وبمحمد رسولا) يعني متبعا، وإلا فإننا نرضى بجميع الرسل عليهم الصلاة والسلام، ونؤمن بهم على أنهم رسل الله، وأن ما جاءوا به حق، لكن الرسول المتبع الذي يجب علينا اتباعه وهو محمد صلى الله عليه وسلم، أما غيره من الأنبياء، فإننا لا نتبعهم إلا حسب ما يؤذن لنا في الشريعة (التعليق على صحيح مسلم)(1/177). ثمرات من عاش عليها: إن من عاش على هذه المعاني الكريمة والكلمات العظيمة حري أن يثبته الله تعالى في اللحظات الأخيرة.. عند توديعه لهذه الدنيا، قال الله تعالى:( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) [إبراهيم:27]. و القول الثابت هو كلمة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، وهذه الكلمة الطيبة تضمنت هذه المعاني وهي الرضا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا، وهي أوضح من أن تبين. ومن لطيف ما روي في هذا الباب قصَّةُ الإمام المحدث أبي زرعة الرازي رحمه الله عندما حضرته الوفاةُ. عن محمد بن مسلم البادي قال: حضرت مع أبي حاتم محمد بن إدريس عند أبي زرعة عُبيد الله بن عبد الكريم الرازي وهو في النَّزْع (أي عند الموت)، فقلت لأبي حاتم: تعال حتى نُلَقِّنَه الشهادةَ، فقال أبو حاتم: إنِّي لأستحيي من أبي زرعة أن أُلَقِّنَه الشهادةَ، ولكن تعال حتى نتذاكرَ الحديثَ، فلعلَّه إذا سمعَه يقول، قال محمد بن مسلم: فبدأتُ فقلتُ: حدثنا أبو عاصم النبيل، قال: حدثنا عبد الحميد بن جعفر، فارْتَجَّ عليَّ الحديثُ، حتى كأنِّي ما سمعتُه ولا قرأتُه. فبدأ أبو حاتم وقال: حدثنا محمد بنُ بشار، قال: حدَّثنا أبو عاصم النبيل، عن عبد الحميد بن جعفر، فارتَجَّ عليه حتى كأنَّه ما قرأه ولا سمعه، فبدأ أبو زُرعة: (أي: وهو في النَّزْع) وقال: حدَّثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم النبيل، قال: حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن صالح ابن أبي عَريب، عن كثير بن مُرَّة، عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن كانَ آخرَ كلامه مِن الدُّنيا لا إله إلاَّ الله) وخرجتْ روحُه مع الهاء، من قبل أن يَقولَ دخل الجنَّة). السؤال عند القبر: إذا وضع العبد في قبره فإنها توجه له ثلاثة أسئلة، وهذه الأسئلة أجوبتها هي هذه الكلمات، فمن عاش بها ومعها ولها فيكون جوابه بإذن الله. جاء في الحديث: (مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ : رَبِّىَ اللَّهُ. فَيَقُولاَنِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِي الإِسْلاَمُ. فَيَقُولاَنِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ قَالَ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم). أما من عاش في غفلة عنها، وما تأملها ولا تدبرها ولا عمل بمقتضاها فأنّا له أن يجيب! وإنما يكون قوله: (هَاهْ هَاهْ لاَ أَدْرِي) نسأل الله العافية. رزقنا الله و إياكم العلم النافع والعمل الصالح، وجعلنا من أولي الألباب الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أبو عبد العزيز منير الجزائري