كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ للمسلم أن يجلس في صلاة الجمعة مُنْصِتًا مُنْتبهًا؛ لكي يستفيد من كل كلمة يقولها الإمام في خطبته؛ لذلك كان يمنع كلَّ ما يمكن أن يُعَكِّر صفو هذا الإنصات، ومن ذلك أنه كان يمنع المسلمين من تخطِّي رقاب إخوانهم كي يتقدَّمُوا إلى الصفوف الأولى؛ فقد روى أبو داود -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ، قَالَ: كُنَّا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ رضي الله عنه صَاحِبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَجَاءَ رَجُلٌ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ رضي الله عنه: جَاءَ رَجُلٌ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ . وهذا الإيذاء له وجوه أخرى كذلك غير الإلهاء عن السماع؛ فهو يُسَبِّب الضيق للجالسين عندما يرفع أحدهم قدمه فوق مستوى كتفه، وهو كذلك يُضَيِّع على القادمين مبكِّرًا أجرَ الصفوف الأولى، والعلاج الأمثل لهذه المشكلة يتمثَّل في أن يحرص المُبَكِّرون بالقدوم على ملء الصفوف الأولى أولاً بأول، فلا يتركون فُرْجَة بينهم؛ وذلك حتى يستوعب المسجد جموع المُصَلِّين، فلا يضطر أحدهم إلى مخالفة السُّنَّة بتخطِّي الرقاب. ولا يفوتنا أن ننبِّه المسلمين إلى سُنَّة التبكير إلى صلاة الجمعة، فيَكْثُر أجْرُنا، ونحفظ أنفسنا من هذه المخالفات، وما أروع أن نُنصت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُقَدِّم لنا نصائح غالية تُعِينُنا على تحقيق المغفرة في هذا اليوم العظيم! فقد روى البخاري عَنْ سَلْمَانَ الفَارِسِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لاَ يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ، وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ، أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَلاَ يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الإِمَامُ، إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجُمُعَةِ الأُخْرَى . ولعلَّنا نلحظ من بين النصائح ألا يُفَرِّق المسلم بين اثنين في الصلاة، وهذا يكون بعدم تخطِّي الرقاب. سُنَّة إعلان التمسُّك بفطرة الإسلام يُولَد كل مولود على الفطرة؛ فقد روى البخاري عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ . والفطرة المقصودة هي الطبيعة الخاصة التي تدفع صاحبها إلى الدين الحقِّ، وإلى توحيد الله عز وجل، وإلى حبِّ الخير، وبُغض الشرِّ، وهذه الفطرة السليمة مزروعة في كل مولود من البشر؛ ولكن العوامل التربوية والبيئية هي التي تُغَيِّر من هذه الفطرة فتنحرف بها عن جادَّة الصواب، ووظيفة المسلم أن يظلَّ على الفطرة السليمة إلى آخر عمره؛ لأنَّ مَنْ مات عليها مات مُوَحِّدًا، وبالتالي دخل الجنة، وقد علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سُنَّة جميلة نُعْلِن بها كل يوم أننا ما زلنا على الفطرة السليمة، وما زلنا مُوَحِّدين بالله، وما زلنا كذلك متمسِّكين بطريق رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنبياء ومنهجهم؛ فقد روى النسائي -وقال الألباني: حسن- عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَصْبَحَ قَالَ: أَصْبَحْنَا عَلَى فِطْرَةِ الإِسْلاَمِ، وَكَلِمَةِ الإِخْلاَصِ، وَدِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَمِلَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا، وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وهذه الرواية تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول هذه الكلمات في الصباح، ولكن في رواية أخرى عند أحمد -بسند حسن- أيضًا عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ إِذَا أَصْبَحَ، وَإِذَا أَمْسَى.. . فذكر أن الكلمات تقال في الصباح والمساء، وهي تُقال مرَّة واحدة، وفيها الإعلان الصريح أننا على فطرة الإسلام السليمة، وعلى كلمة الإخلاص التي هي كلمة التوحيد: لا إله إلا الله. وأننا مُتَّبِعون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبينا أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهو صاحب المنهج الحنيف؛ أي المائل عن الباطل. إنه إعلان رائع، وشهادة عظيمة، نسأل اللهَ أن نلقاه عليها.