مختصو التربية يدقون ناقوس الخطر تعرف ظاهرة التدخين بين المتمدرسين انتشارا واسعا ومخيفا في السنوات الأخيرة، خاصة على مستوى الثانويات والمتوسطات، ويرجع ذلك إلى وجود عدة أسباب تقف وراء استفحال الظاهرة التي تؤدي إلى عواقب وخيمة تتأثر بها الأجيال الشابة سلباً وتدمر صحة أجيال المستقبل، ويأتي تحقيقنا بغية الكشف عن حجم انتشار الظاهرة ومعرفة أسبابها الحقيقية واستخلاص الحلول الممكنة. ياسر بودرع أثناء تحقيقنا، صرح لنا عدد من التربويين والمواطنين عن تخوفهم العميق من انتشار تلك الظاهرة وتأثيرها السلبي على صحة التلاميذ، خاصة أن الغالبية منهم في مقتبل العمر، فضلا عن انزلاقهم في أمور أخرى كالكيف والمخدرات وغيرها من المواد السامة والمضرة التي تؤدي إلى أمراض خطيرة مع تقدم عمر الإنسان.
أبي يدخن.. فلم لا أدخن في البداية، تحدث إلينا التلميذ محمد الذي التقيناه بجوار ثانويته يدخن مع زميله أمير قبل بدأ حصص الفترة المسائية، ودون مبالاة أو حرج من أن يراهما المساعدون التربويون أوالمشرفون على الثانوية! يستمر التلميذان في التدخين ويقول أحدهما بدأت التدخين منذ ثلاث سنوات عندما كنت في المرحلة المتوسطة، والحقيقة أن التدخين أمر عادي جدا في منزلنا فأبي وإخوتي مدخنون، لكنهم طبعا لا يعرفون أنني أدخن، ويواصل محمد التدخين أمر طبيعي في الثانوية فنحن لم نعد صغارا بل التدخين واسع الانتشار في المتوسطات أيضا كما سبق أن أخبرتكم، أنا شخصيا كنت أدخن في المتوسطة مع أصدقائي ، بينما يؤكد صديقه أمير أنه تعرض للطرد ثلاثة أيام هو وزملاؤه عندما كان في المتوسطة بعد أن تم ضبطهم يدخنون في دورة المياه، ويكمل رغم أني تلقيت الكثير من النصائح لترك التدخين خاصة من طرف والدتي فهي دائما تذكرني بأضراره وسلبياته لكني لا أستطيع تركه، نحن الشباب لم نعد أطفالا صغارا، والدي يدخن في البيت، لكنه لا يريدني أن أدخن لهذا لا يعطيني المال لكني أحصل على السجائر في المدرسة من زملائي كل يوم . أغلب التلاميذ الذين التقينا بهم يملكون مدخنين في العائلة، لكن هم لا يدخنون في المنزل بل يجدون في المدرسة حضنا لهم ومكانا خاصا لفعل ما يريدون، وهنا بدا واضحا رغبة هؤلاء الشباب في الظهور بمظهر البالغين والراشدين، كما بدا واضحا تأثير دور التقليد في انتشار ظاهرة التدخين داخل المدارس، فالتلاميذ في سن المراهقة يميلون إلى التمرد ويقبلون على هكذا تصرفات من باب تقليد ومسايرة بقية زملائهم الذين يعتبرون التدخين أحد مظاهر تميزهم وارتفاع شأنهم داخل المدرسة التي صارت مكانا مثاليا لانتشار التدخين وزيادة عدد المدخنين من التلاميذ بعد أن كانت مكانا يعنى فقط بغرس الأخلاق والمثل العليا في أبنائنا وتلقينهم مختلف المعارف والعلوم! الطلاق... اليتم والفقر تبريرات لاستفحال الظاهرة يشرح لنا المراقب العام بإحدى المتوسطات الأستاذ سليم، أن كل البحوث والمؤشرات والإحصائيات تشير إلى ارتفاع معدلات انتشار التدخين في العالم بشكل عام، حتى أنها باتت تشكل ظاهرة عالمية والمجتمع الجزائري مثل كثير من مجتمعات العالم يعرف نموا متزايدا للمدخنين. أما بخصوص انتقال عدوى هذه الآفة إلى المدرسة الجزائرية فالسبب هو المشكل الأخلاقي الذي نعيشه اليوم وضعف الوازع الديني، فلطالما ارتبطت المدرسة الجزائرية لعقود بنشر الأخلاق الحميدة والقيم السامية والسلوك الحسن، لكن المدرسة هي دائما جزء من المجتمع وتتأثر به وبتفاعلاته ومشاكله! يضيف سليم أن المشاكل الأسرية هي أحد أهم الأسباب التي تدفع بتلاميذ المدارس إلى التدخين، فكثير منهم يعانون من عدم الاستقرار في حياتهم الأسرية نتيجة المشاكل المعروفة كحالات الطلاق بين الوالدين أونتيجة الظروف الاجتماعية الصعبة التي تعرفها بعض الأسر، وفي مثل هذه الحالات يلجأ التلاميذ إلى التدخين ظنا منهم أنه يخفف عنهم الضغوطات أو ينسيهم همومهم، وأنا شخصيا مرت علي حالات مشابهة بعضها حفر في ذاكرتي، أتذكر أني اتخذت إجراء إداريا صارما ضد تلميذ مشاغب وكسول عندما ضبطته وهو يدخن، لتأتي والدته في اليوم التالي إلى المتوسطة، تبين أنها زميلة سابقة في العمل مرض زوجها فاضطرت إلى التخلي عن وظيفتها للاعتناء به وبشؤون الأسرة، وكم كان صعبا علي أن أمسك الدموع وأم التلميذ تروي لنا معاناتهم مع الفاقة والحاجة لدرجة أنه تم قطع الكهرباء عنهم لعدم قدرتهم على التسديد ويستخدمون الحطب للتدفئة، لقد تبين أن التلميذ يأتي إلى المدرسة يوميا وهو جائع في صقيع البرد، حينها أدركت أنه ربما يحمل من الضغوطات النفسية أكثر مما قد يتحمله البالغون، ورغم أني اتخذت الإجراءات القانونية والإدارية اللازمة والصحيحة، غير أن معرفتي لحقيقة ظروف التلميذ جعلتني أشعر بأني لم أقم بالصواب على الأقل من الناحية الأخلاقية، لأن الوضع الطبيعي للتلميذ أن يتمتع بالظروف المناسبة التي تسمح له بالتركيز على الدراسة كبقية زملائه. وأردف سليم أن الأسباب تبقى مختلفة ومتعددة، وحتى نسب تدخين التلاميذ في المدارس غير دقيقة لأنها تبقى ظاهرة خفية فعادة يلجأ التلاميذ المدخنون إلى الاختفاء عن الأعين، ونحن كموظفين في سلك التعليم قد نشرف لسنوات على مدخنين ولا نعلم بهم، أما بخصوص النسب فتختلف من مرحلة لأخرى فهي أقل بكثير في المتوسطة منها في الثانوية بينما لا تطرح إشكالا في المرحلة الابتدائية، كما يظهر اختلاف النسب بين حي وآخر ومنطقة وأخرى وهذا من تجربة شخصية، وحتى نكون واضحين فإنه لا توجد لدينا إحصائيات دقيقة مبنية على دراسات ميدانية للظاهرة. لابد من نشر الوعي بين التلاميذ من جهته، قال م. كمال مدير ثانوية، إن المدرسة ليست بمعزل عن تفاعلات وسلوكيات المجتمع الجزائري، فهي مؤسسة تضم أبناء هذا الشعب ومن الطبيعي أن تتأثر المدرسة ببعض السلوكيات التي يفترض بها أن تبقى خارج أسوارها، وبالتالي لا أرى أنه من السليم تحميل المدرسة كل المسؤولية في انتشار هذه الظواهر التي هي في أصلها جزء من سلوكنا الاجتماعي، كمثال على ذلك العنف المدرسي أو التدخين الذي يعتبر من الأشياء السهلة المنال بالنسبة للتلميذ، سواء من المحلات المنتشرة هنا بالقرب من المدرسة أو حتى من زملائه، فالتلاميذ يقلدون بعضهم البعض في مثل هذه الأمور، وأشار م. كمال إلى الجهود التي تبذلها المدرسة لحماية التلاميذ من مثل هذه الظواهر عبر أدوار مختلفة تبدأ من الرقابة وسن قانون داخلي للمدرسة يحدد ما هو جائز وما هو ممنوع، وكل التلاميذ اطلعوا على القانون الداخلي للمدرسة بمعية أولياء أمورهم في بداية السنة الدراسية، ولا يجب أن ننسى الدور التحسيسي والإرشادي للمدرسة في هذا الشأن من خلال إدراج مواضيع للتوعية من مخاطر التدخين في المقرر الدراسي، وهو ما يجعل التلاميذ على دراية وإدراك تام بالمخاطر الجسمية والنفسية التي يسببها التدخين والمخدرات وغيرها، واستطرد محدثنا قائلا إن الضمير المهني والأخلاقي الحي للأساتذة والمساعدين التربويين ومشرفي التربية يساعد في إبعاد التلاميذ وحمايتهم من الآفات التي تتربص بهم حيث لا يترددون في إعطاء النصيحة لهم، وهناك نتائج إيجابية لهذه الأدوار المختلفة فكثير من التلاميذ المدخنين يقلعون عن التدخين بعد اقتناعهم بالنصائح الموجهة إليهم، وهكذا فإن المدرسة الجزائرية تأخذ على محمل الجد مسؤولية حماية تلاميذها والحفاظ على سلامتهم في مواجهة مثل هذه الظواهر الخطيرة التي تعتبر من إفرازات المجتمع، وهنا يجب أن نشرك الأسرة ومنظمات المجتمع المدني والإعلام من أجل التوعية بهذه المخاطر، فالمدرسة عاجزة عن مواجهتها لوحدها لأنها تبقى جزءا من حياة التلميذ وليست كل حياته. استعمال العنف مع المدخن لا يأتي بنتيجة أشار المساعد التربوي بدر الدين إلى أنه في حالة ضبط تلميذ مدخن فإن التعامل يكون وفق قواعد تحددها قوانين تنظيمية معينة، لأن المدرسة ليست بمحكمة فهي مؤسسة تربوية من أهدافها السامية تربية التلاميذ وتقويم سلوكهم ومساعدتهم على ذلك. وعليه، فإن القضية تتطلب التحلي بالاحترافية والحكمة في التعامل معها دون إهمال الإجراءات القانونية اللازمة، فأول خطوة يجب القيام بها هي معرفة بعض المعلومات والبيانات الخاصة بالتلميذ كالتدقيق في الحالة الاجتماعية وبعض الخلفيات كوجود الوالدين أو هل التلميذ يتيم مثلا، ونحاول معرفة مدى استقرار محيطه الأسري وداخل الصف، ومتى بدأ التدخين! وكلها خلفيات ضرورية تساعدنا في معرفة العلاج المناسب للتلميذ حسب حالته وطبعا نقوم بإخطار ولي الأمر في أغلب الحالات، لكن أحيانا نحن مضطرون لعدم فعل ذلك إذا رأينا أن الولي لن يكون على القدر الكافي من التفهم والتعاون بالطريقة السليمة لعلاج مشكلة ابنه، وشدد بدر الدين على ضرورة تكامل الأدوار بين الأسرة والمدرسة ومؤسسات المجتمع المدني والتنسيق بين مختلف هذه الفواعل من أجل إنقاذ التلاميذ المعرضين لتهديد الآفات المختلفة وهكذا فقط نحمي ثروة الأمة ومستقبلها ونصل بها إلى بر الأمان. وحول أسباب استفحال الظاهرة في مدارسنا، أشار محدثنا إلى جملة أسباب لم تبتعد عما ذكره من سبق أن تكلمنا معهم حول الموضوع، حيث اعتبر أن الافتقار إلى نموذج القدوة من أكبر الأسباب، فنحن هنا نتكلم عن شباب في سن المراهقة يريدون أن يكبروا بسرعة، لذلك يجدون في التدخين وسيلة تشعرهم بأنهم فعلا بالغون! وطبعا التقليد الأعمى لعب دوره هنا دون أن ننسى دور الدعاية والسينما والتلفزيون وتأثيرها على شباب اليوم وبعضه متأثر بنجوم الفن من المدخنين، وتطرق بدر الدين خلال حديثه لنا عن نقطة حساسة في الموضوع وهو وجود بعض البنات المدخنات لكن بنسبة صغيرة مقارنة مع نسبة الذكور في المدرسة. أما بخصوص سؤالنا هل أصبحت المدرسة حضنا للمدخنين من شبابنا فأجاب بدر الدين إن كل المدارس تمنع منعا باتا التدخين داخل أسوارها، بل الحظر يشمل أيضا الأساتذة وكل من يعمل داخل المدرسة، لكن باعتبار المدرسة تسهل التقاء عدد كبير من التلاميذ فهذا يساهم في انتشار ظاهرة التدخين دون شك، لأن التلاميذ يؤثرون في بعضهم البعض كما سبق أن ذكرت وهنا يجب أن نفهم نقطة رئيسية وهي أن المدرسة تبقى مؤسسة تربوية ليست قادرة بما تملكه من قوانين وإمكانات وأساليب من القضاء الكلي على ظاهرة التدخين. من واجبات المدرسة حماية التلاميذ واستعرض من جهته، المساعد التربوي عمار أساليب تعامل المدرسة مع التلميذ المدخن الذي يتم ضبطه، فمن الطبيعي تحسيس التلميذ باستياء الإدارة من تصرفه لأن المدرسة لها حرمتها وقيمتها وقوانينها، ثم أهم مرحلة هي إرشاد التلميذ وتوعيته بمساوئ التدخين وأضراره المختلفة في جلسة إرشادية مع المساعدين التربويين أو الناضر أو المدير، لأن دور التربية والتوعية يأتي في المقام الأول بالنسبة إلينا، ويمكن اتخاذ إجراءات إدارية أخرى كإخطار ولي التلميذ في كثير من الحالات وأخذ تعهد من التلميذ بعدم تكرار فعله، وقد تضطر المدرسة إلى تسجيل إنذار في السلوك والفصل المؤقت أوالفصل النهائي في حالات نادرة إذا اقتضت الضرورة ومصلحة المدرسة، وأشار عمار إلى انعدام التواصل بين المدارس والمؤسسات المعنية بمكافحة التدخين على خلاف ما يوجد في الدول المتقدمة، أين تساعد هذه المؤسسات المختصة في حملات التوعية من مخاطر التدخين بالمدارس، خاصة أن بعض التلاميذ مدمنون على التدخين بشكل مفرط ويتم ضبطهم أكثر من مرة مما يضع المدرسة في إشكال حقيقي بخصوص كيفية التعامل معهم، لكن المدرسة ماضية في القيام بدورها في منع التدخين داخل أسوارها عبر مختلف الوسائل المتاحة خاصة ما تعلق بإرشاد التلاميذ وتوعيتهم، ولا يفوتني هنا أننا في حاجة إلى خلق وتطوير وسائل جديدة في المدرسة الجزائرية بغية تحقيق الأهداف المرجوة كالعمل على تطوير الأنشطة والنوادي المدرسية التي يشرف عليها التلاميذ لإنجاز مجلات ونشريات تحسيسية وتثقيفية. تلاميذ في خطر... فمن ينقذهم؟ أكد لنا بعض المدرسين الذين تقربنا منهم وعلامات الحسرة تعلو وجوههم، أن الإجراءات التي تتخذها إدارة المدرسة والمتمثلة في استدعاء ولي الأمر لم تعد مجدية ورادعة في ظل تمرد التلميذ على أسرته ومحيطه، مطالبين وزارة التربية والتعليم بسن قوانين عقابية جديدة تصل إلى الفصل التام من المدرسة وإبعاد التلاميذ المشاغبين حتى لا يفسدوا جو الدراسة على بقية التلاميذ، وذهب أغلب من تحدثوا معنا إلى أن المسؤولية الأكبر تقع على الأسرة في الرقابة وتوعية أبنائها من مخاطر التدخين ورفاق السوء وتوعيتهم بالعواقب الوخيمة لتقليد السلوكيات المخالفة للقانون وعادات المجتمع، وطالب مجموعة من المواطنين الجهات المعنية بمنع بيع السجائر قرب المدارس أو سن قوانين وطنية تمنع بيعها لمن هم دون السن القانونية، مع ضرورة تغريم نقاط بيع السجائر المخالفة وتشديد الرقابة عليها. وفي حديثه إلينا صرح عمي أحمد وهو أستاذ سابق في التربية البدنية أن الظاهرة باتت مشكلا حقيقيا يؤرق المجتمع ولن ننجح في التغلب عليه إلا بالرفع من مستوى الوعي بخطورة التدخين وأضراره عبر العمل التحسيسي الذي تلعب فيه منظمات المجتمع المدني دورا رئيسيا، كما أشار الأستاذ أحمد إلى أن إرشاد أبنائنا إلى ممارسة الرياضة والهوايات الأخرى سيكون له أثر إيجابي في إبعادهم عن آفة التدخين واستغلال طاقاتهم فيما يفيدهم.