ما كان العلم يوماً كثرة معلومات ولا قدرة على جذب الجماهير والاستحواذ عليهم فحسب؛ بل العلم صدق ورسالة قبل كل ذلك، يحمل همه ومسئوليته من رأى أنه وحده منوط بهذا العمل، وأنه أمانة في رقبته، وأن عليه مسئولية النصح والتعليم مهما صدّه من حوله عن التعليم والنصح؛ فيكون كما قال الإمام الشاطبي لكل عالم: وقد قيل كن كالكلب يقصيه أهله ولا يأتلي في نصحهم متبذّلاً وإذا لم يُذكر الإمام مسلم في رجال الحديث وحاملي رايته، وصاحب ثاني صحيح بعد البخاري، وأصدق كلام بعد كتاب الله؛ فمن غيره يُذكر؟ ومَن غيره يكون أهلاً للإمامة في علم الحديث خُلُقاً وزهداً وعلماً؟ أجمع معاصروه وتلاميذه أنه كان ورِعاً زاهداً، لم يغتب ولم يضرب أو يشتم أحداً قط، شجاعاً لا يخاف في الله لومة لائم، وقف مع شيخه البخاري في أزمته، وواجه كل المناوئين من السياسيين والعلماء. قال عنه بندار: (الحفاظ أربعة: أبو زُرعة، ومحمد بن إسماعيل (البخاري)، والدارمي، ومسلم)، وقال النووي: (وأجمعوا على جلالته وإمامته وعلوّ مرتبته، وحذقه في هذه الصنعة، وتقدّمه فيها وتضلّعه منها)، وقال أيضاً: (واعلم أن مسلماً رحمه الله أحد أعلام أئمة هذا الشأن، وكبار المبرزين فيه، وأهل الحفظ والإتقان والرحَّالين في طلبه إلى أئمة الأقطار والبلدان، والمعترف له بالتقدم فيه بلا خلاف عند أهل الحذق والعرفان). نشأته هو الإمام أبو الحسن مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، ولد سنة 204ه بنيسابور، وأقام بها وتعلم، وكانت وقتها مهداً لعلماء الحديث؛ حتى أطلق عليها الذهبي (دار السنة والعوالي). كان والده معلماً وشيخاً ذا مكانة فتعلم أولاً على يديه، وحفظ القرآن والحديث وتعلم صنوف العلم في صغره، ثم عمل بزازاً (خياطاً) وبائعاً للثياب وتاجراً، وكان له ضِياع وتجارة كبيرة، وقد ساعدته ثروته على التفرّغ لطلب العلم؛ فحفظ القرآن وبدأ في سماع الحديث وعمره 12 سنة، وكان مثالاً للباحث المجتهد. وبرغم ظهوره معاصراً لعدد من العلماء الأفذاذ، وبرغم أنه لم تتحقق له موهبة شيخه البخاري، ولا تمتع بجاذبيته ولفت الأنظار له، فإن اجتهاده كان كفيلاً بوضعه بقوة موازياً للإمام البخاري؛ فأصبح صحيحه صنواً لصحيح البخاري. طاف البلاد الإسلامية طلباً للعلم وسمع من شيوخ بلده نيسابور، ومن غيرهم من علماء الحجاز والكوفة ومصر والشام وخراسان وغيرها، ولقي جهابذة العلم والحديث، وتتلمذ على أيديهم ونقل عنهم. برع في علوم شتى ولا سيما علمي الفقه والحديث، وقد ذكر أغلب من ترجموا عنه أنه كان من المحدّثين الفقهاء، وله آثار فقهية وآراء قوية؛ لكن غلبت عليه شهرة الحديث. مع البخاري تلميذاً وشيخاً كان من أبرز شيوخ مسلم الإمام البخاري الذي أعجبه انكبابه على العلم والاجتهاد فيه، والانقطاع له، قال الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي: (إنما قفا مسلم طريق البخاري ونظر في علمه وحذا حذوه). وكان لمسلم شيوخ كثر غير البخاري؛ لكن الفضل الأول في علم مسلم يعود للبخاري.. ومع كون الإمام مسلم تتلمذ على الإمام البخاري ولازمه واستفاد منه؛ فإنه لم يروِ عنه في صحيحه شيئاً؛ برغم أنه روى عنه كثيراً في كتب أخرى غير الصحيح. ويبدو -والله أعلم- أن مسلماً رحمه الله فعل ذلك لأمرين: الأول: الرغبة في علو الإسناد؛ فروى ما يُقرّبه سنداً من رسول الله صلى الله عليه وسلم. الثاني: أنه ساءه ما حصل من بعض العلماء من مزج الأحاديث الضعيفة بالأحاديث الصحيحة وعدم التمييز بينهما؛ فوجه عنايته في تجريد الصحيح من غيره كما أوضح ذلك في مقدمة صحيحه؛ فزاد على ما جاء عند البخاري من الأحاديث أو اشترك معه؛ فزاد اثباتاً لصحيح ما جاء فيه ولذلك احتاج هذا الاثبات لصحيح البخاري إلى طرق أخرى غير طرق البخاري. حتى تمت شهرة صحيحه؛ فأصبح نظيراً لصحيح البخاري وجاءت تعليقات العلماء على قوة الحديث وصحته بعبارات تجمع بين الشيخين مثل: (صحيح على شرط الشيخين)، أو (رواه الشيخان)، أو (اتفق عليه الشيخان)، أو (رواه البخاري ومسلم). قصة الصحيح ومنهجه ألف الإمام مسلم صحيحه وعمره 29 سنة، وكان ذلك بعدما رأى تخبط طالبي العلم في حفظ الحديث؛ وما يلاقونه من صعوبة فيه؛ فوقع في نفسه تبسيط هذا العلم وضبطه وتقديمه جاهزاً ناجزاً إلى طلبة العلم، خاصة بعد أن حسّن له أحد طلابه ذلك عندما طلب منه وضع كتاب يجمع فيه الصحاح، ويكون على نحو منهجي سلس.. يقول عنه: (ألفته من نحو 300 ألف حديث سمعتها)؛ فجعل ينقحها حتى اختار أعلاها صحة. سلك الإمام مسلم منهجاً متميزاً وفريداً عن كتب الحديث -حتى عن صحيح الإمام البخاري- في ترتيب أحاديث صحيحه في معظم أبواب الكتاب، حسب الخصائص الإسنادية والحديثية في كل حديث، ولهذا مال بعض الأئمة إلى ترجيح صحيح مسلم على صحيح البخاري. فقد رتّب الأحاديث الصحيحة على حسب درجة قوة الرواة، ومن البديهي أن الثقات تتفاوت مراتبهم وأحوالهم باختلاف الشيوخ والأماكن والأوقات؛ فمن ذلك مثلاً اعتماده الشهرة في ترتيبه، فيفضل الحديث الذي اشتهر بين الثقات على الحديث الذي لم يشتهر، حتى وإن كان هذا الحديث الذي لم يشتهر من رواية الأوثق والأثبت. ومن ذلك أيضاً: التسلسل؛ كأن يكون رواة الحديث كلهم من أهل بلد واحد، أو قبيلة واحدة، فيقدم الحديث الذي تسلسل بهذا الشكل على غيره، أو أن يكون الرواة كلهم ممن اشتهر بحفظ الحديث وفقهه، فيقدم أحاديثهم المسلسلة بذلك على غيرها.. إلى آخر الخصائص المنهجية التي اعتمدها؛ فإذا استوفى حديث من الأحاديث هذه الخصائص الإسنادية وغيرها من المرجحات التي لا تحصى؛ يكون ذلك الحديث أسلم وأنقى من غيره. يقول الإمام النووي: (ومن حقق نظره في صحيح مسلم -رحمه الله- واطلع على ما أودعه في أسانيده وترتيبه وحسن سياقته وبديع طريقته، من نفائس التحقيق وجواهر التدقيق وأنواع الورع والاحتياط والتحري في الرواية وتلخيص طرقه واختصارها وضبط متفرقها وانتشارها وكثرة اطلاعه واتساع روايته، وغير ذلك مما فيه من المحاسن والأعجوبات واللطائف الظاهرات والخفيات؛ علم أنه إمام لا يلحقه من بعد عصره، وقلّ من يساويه -بل يدانيه- من أهل وقته ودهره؛ وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم). قال عنه أبو علي النيسابوري: (ما تحت أديم السماء كتاب أصحّ من كتاب مسلم)، وقال الإمام ابن تيمية: (ليس تحت أديم السماء كتاب أصح من البخاري ومسلم بعد القرآن)، وقال الإمام النووي: (أجمعَت الأمة على صحة هذين الكتابين ووجوب العمل بأحاديثهما). وكان يدرّس في مجالس السلاطين والأمراء وكان العلماء يعقدون فيه الامتحان لبيان أصحاب العلم من مدّعيه. وقد ظهرت مؤلفات كثيرة جداً بعد ذلك، جمعت بين صحيحي البخاري ومسلم في مؤلف واحد، أشهرها (الجامع بين الصحيحين) لابن الفرات، وغيرها كثير مما يحمل نفس الاسم أو قريباً منه. مؤلفاته: قال النووي: (وصنف مسلم رحمه الله كتباً كثيرة؛ منها كتاب الصحيح الذي مَنَّ الله به على المسلمين وأبقى لمسلم به ذكراً جميلاً وثناء حسنا إلى يوم الدين، مع ما أعد له من الأجر الجزيل في دار القرار وعم نفعه المسلمين قاطبة). وكما ذكرنا أنه برع في علوم شتى وأبرزها الفقه والحديث؛ فإن شهرة الحديث قد غلبت عليه فجاءت معظم مؤلفاته وفيما حوله من علم الرجال والجرح والتعديل وما هو خاص بعلم الرواية، ضاع منها الكثير وقد ذكرها العلماء في تصانيفهم، وبقي أكثر من ثلثي ما عُثر عليه مخطوطاً في دور الكتب في البلاد الإسلامية، لم يجد من يحققه أو يطبعه.. ومن أبرز مؤلفاته: - المسند الكبير على أسماء الرجال - الجامع الكبير على الأبواب - العلل. - أوهام المحدّثين - من ليس له إلا راو واحد - طبقات التابعين - الأسماء والكنى. - كتاب الأفراد. - كتاب الأقران. - كتاب سؤالات أحمد بن حنبل. - كتاب مشايخ مالك. - كتاب أولاد الصحابة. - طبقات الرواة - طبقات التابعين ** رجل قتله حديث! توفي الإمام مسلم رحمه الله عشية يوم الأحد بنيسابور، سنة إحدى وستين ومائتين، وعمره 55 عاماً. وجاءت في بعض الروايات أن سبب وفاته كانت بسبب حديث لم يعرفه؛ حيث كان في مجلس علم له، فذُكر له فيه حديث فلم يعرفه؛ فانصرف إلى منزله، وطلب من أهله عدم الدخول عليه، وظلّ يبحث عنه ليلة بطولها؛ فلم يجده، فنام مهموماً حتى وجدوه متوفى في اليوم الذي يليه. فأثابه الله عنا خيراً رجلاً أخلص للعلم ولسنة النبي فكانت همه وشاغله