(البحر المتوسط تحوّل إلى مقبرة جماعية مفتوحة)، يقول النائب الإيطالي من أصل مغربي ومنسّق مجموعة الهجرة في مجلس النواب الإيطالي خالد شوقي واصفاً حادثة غرق أكثر من 800 مهاجر غير شرعي في البحر المتوسط، هوى مركبهم المتقادم إلى قاع البحر على بعد حوالي 110 كيلومترات عن السواحل الإيطالية صباح الأحد الماضي، ب(الفاجعة الإنسانية المخزية)، متمنياً (أن تستيقظ أوروبا من سباتها لأن إيطاليا لن تستطيع أبداً مواجهة هذه الموجات البشرية على سواحلها بمفردها، وإذا استمر الأمر على هذا المنوال فستغرق إيطاليا وأوروبا أيضاً في المتوسط). هذه الفاجعة اكتست بسرعة بُعداً تراجيدياً مهولاً في إيطاليا وكل بلدان الاتحاد الأوروبي، وجاءت بعد أيام قليلة من اختفاء حوالي 400 مهاجر في المتوسط رجّحت البحرية الإيطالية غرقهم أيضاً. غضب إيطالي وباتت السواحل الإيطالية في السنوات الأخيرة هدف الآلاف من المهاجرين غير الشرعيين الأفارقة والعرب الذين ينطلقون من السواحل الليبية بوتيرة شبه يومية عبر مراكب يتكدس فيها المئات، بعضها يغرق لكن غالبيتها تنجح في الوصول إلى السواحل الإيطالية بعد تدخّل البحرية الإيطالية والبواخر الدولية التي تمخر عباب المتوسط ليل نهار. أرقام الهجرة غير الشرعية عبر المتوسط وضحاياها وصلت إلى حد مخيف في الآونة الأخيرة، فحسب (المنظمة الدولية للهجرة) قضى 1650 شخصاً غرقاً منذ بداية العام الحالي مقابل 3419 العام الماضي، وهناك حوالي 23 ألف مهاجر وصلوا بأمان إلى السواحل الإيطالية. وهذه الأرقام ستتصاعد من دون أدنى شك في الأسابيع المقبلة بسبب أحوال الطقس الملائمة والأعداد الهائلة للمرشحين للهجرة في السواحل الجنوبية للبحر المتوسط. ويقول مسؤول فرع (منظمة العفو الدولية) في باريس جون فرانسوا ديبوست، إن (كل الظروف مجتمعة بشكل استثنائي لكي يهلك المزيد من المهاجرين في البحر المتوسط، أحوال الطقس، جشع عصابات المهربين والفوضى الأمنية والسياسية في ليبيا والاضطرابات في منطقتي الساحل الإفريقي والقرن الإفريقي والحرب في سورية والعراق)، مضيفاً (يجب أن نعرف أن هؤلاء المهاجرين يدركون جيداً مخاطر الإبحار باتجاه أوروبا لكنهم يائسون ويستحيل عليهم العودة إلى الوراء). رسالة "أوروبية" من تحت الماء الغضب الإيطالي تجاه الاتحاد الأوروبي يعود بشكل أساسي إلى رفض هذا الأخير وضع خطة ناجعة بميزانية مناسبة لتأمين البحر المتوسط، ليس فقط عبر مراقبة السواحل الأوروبية وتكثيف المراقبة في عرض البحر، بل بالتحرك في ليبيا ودول الساحل الإفريقي لإنشاء مراكز إيواء تحتوي المهاجرين وتقنعهم بعدم ركوب البحر. غير أن الرفض الأوروبي له مبرراته، بسبب خطورة الأوضاع في ليبيا ونشاط الجماعات الجهادية في منطقة الساحل، الأمر الذي يجعل أي حضور أوروبي مخاطرة كبيرة. وكانت إيطاليا قد أطلقت برنامجاً بلغت ميزانيته 122 مليون أورو (نحو 130 مليون دولار) تحت اسم (مار نوستروم) للقيام بعمليات الإغاثة في البحر المتوسط بواسطة 32 قطعة بحرية، لكن الكلفة العالية لهذه العملية والمساهمة الأوروبية المتواضعة فيها، أقل من الثلث، جعلت إيطاليا تضع حداً لها، ليتم استبدالها بخطة (تريتون) بتمويل أوروبي متواضع أثبتت بسرعة عدم فاعليتها. والواقع أن الاتحاد الأوروبي له نظرة مغايرة للأمور، كما يقول المحلل السياسي الفرنسي ورئيس تحرير القسم السياسي في قناة (إيتيلي) أوليفييه رافانيلو" موضحاً أن (هناك رأياً في المفوضية الأوروبية يعتبر أن تكثيف عمليات الإغاثة في البحر المتوسط له نتائج عكسية، لأنه سيجذب أكثر فأكثر المهاجرين الذين يدركون بأنه في كل الأحوال سيكون هناك من ينقذهم في عرض البحر ويقودهم إلى مراكز الإيواء في السواحل الإيطالية، ليبقى العبور عبر المتوسط خطيراً ومهلكاً لكي يحجم المهاجرون عن المخاطرة)، لافتاً إلى أنه (لا يوجد أحد مستعد للجهر بهذه الفكرة بشكل رسمي في المفوضية الأوروبية، لكن سياسة الاتحاد الأوروبي حتى الآن تدفع ضمنياً في اتجاه تحويل المتوسط إلى مقبرة جماعية لثني المهاجرين المتجمعين في ليبيا عن ركوب البحر). ليبيا كابوس الهجرة الأوروبي رأي المحلّل الفرنسي يشاطره إياه المتحدث باسم البحرية الليبية الضابط عمر أيوب قاسم في طرابلس، الذي يؤكد في تصريح أن (في ليبيا الآلاف من الأفارقة الوافدين بشكل خاص من الصومال وإريتريا وجيبوتي ونيجيريا، وهم ينتظرون الفرصة للإبحار في اتجاه إيطاليا، وما دام المجتمع الدولي لا يساعد في حل هذه المشكل فسيستمر مسلسل الموت). والواقع أن ليبيا بسبب الأوضاع المتردية أمنياً وسياسياً وانهيار مؤسسات الدولة، صارت المعبر الرئيسي لآلاف المهاجرين الهاربين من بلدانهم في اتجاه أوروبا. وأمام هذا الوضع الكارثي لا يستطيع ما تبقى من خفر السواحل الليبي أن يحد من هذه الظاهرة. ويقول قاسم (إمكاناتنا متواضعة جداً، وقواربنا الصغيرة لا تسمح لنا بالبقاء طويلاً في عرض المياه الإقليمية الدولية لرصد مراكب المهربين، فما بالك بالإبحار في المياه الدولية. وعلى الرغم من كل هذا فنحن ننسّق قدر المستطاع مع خفر السواحل الإيطالي ونزوّدهم بما لدينا من معلومات حول المراكب المبحرة في اتجاه الجزر الإيطالية). وفي ليبيا تعيش الأعداد الهائلة من المهاجرين الأفارقة في أوضاع مزرية. أما مراكز الإيواء التي لا يتجاوز عددها العشرة، فهي موزعة بالأساس على الشريط الساحلي بين طرابلس والحدود التونسية، وتعاني من الاكتظاظ الشديد. ويدقّ المتحدث باسم الهلال الأحمر الليبي مالك مسروطي ناقوس الخطر في تصريح قائلاً إن (قدراتنا الاستيعابية في مراكز الإيواء محدودة ومخزوننا من الأدوية والمواد الغذائية تناقص بشكل كبير وصرنا نعجز عن تلبية الاحتياجات البسيطة لهؤلاء المهاجرين، كما أن التنسيق صار صعباً مع المنظمات الإنسانية الدولية بسبب الأوضاع الأمنية وإغلاق هذه المنظمات لفروعها في ليبيا). منجم ذهب للمافيات لم يعِ الأوروبيون جيداً أن التدخل الغربي في ليبيا عام 2011 وانهيار نظام العقيد معمر القذافي سيجعلان من ليبيا كابوساً يقضّ مضجع الأوروبيين مع ظهور الجماعات الجهادية وازدهار عصابات التهريب، التي انتبهت إلى الأرباح الكبيرة التي يمكن جنيها من عمليات نقل المهاجرين. ومنذ حوالي عامين تحوّلت هذه العصابات إلى شبكات منظمة لها ترتيب هرمي ووسائل لوجستية للقيام بعمليات تهريب البشر. ويقول المحلل السياسي الليبي كامل مرعاش، الذي يعرف جيداً منطقة الساحل الغربي، في تصريح إنه (بسبب انهيار الدولة الليبية ومؤسساتها واستقواء المليشيات المسلحة، بات هناك تواطؤ وتبادل مصلحة بين عصابات التهريب والمليشيات التي تسيطر على الشواطئ الممتدة من صرمان إلى زوارة مروراً بصبراتة والعجيلات، وهي الشواطئ الأقرب للجزر الإيطالية، لأن مداخيل التهريب تساعد على شراء المزيد من السلاح ودفع رواتب المقاتلين). ويؤكد المحلل السياسي الليبي أن (مدينة زوارة صارت بؤرة تصدير المهاجرين باتجاه أوروبا، فهي معروفة بامتهان أبنائها للصيد البحري، وبسبب الأزمة تحوّل هؤلاء إلى مهنة تهريب المهاجرين وعرضوا خدماتهم ومراكبهم المهترئة على مافيات المهربين). والواقع أن تهريب المهاجرين الأفارقة من الساحل الليبي إلى الضفة الأوروبية ليس وليد السنوات الأخيرة، فالقذافي بنفسه استعمل ورقة المهاجرين الأفارقة ضد الغرب وضد إيطاليا بشكل خاص، كما يذكّر مرعاش، لافتاً إلى أن (القذافي كان يبتز إيطاليا بورقة المهاجرين لكنه كان يتحكّم فيها ويستعملها متى شاء، وظهر هذا جلياً عامي 2009 و2010 عندما توقفت بشكل شبه نهائي مراكب المهاجرين عن الإبحار انطلاقاً من الأراضي الليبية، لأن إيطاليا وقتها قدّمت له مساعدات مالية مهمة). وللسوريين أيضاً نصيب وإذا كان عدد كبير من المهاجرين صوب إيطاليا هم من الأفارقة، فهناك أيضاً مجموعات كبيرة سورية وسودانية ومصرية وفلسطينية تلجأ إلى الساحل الليبي، انطلاقاً من الأراضي المصرية أو السودانية لتجرّب حظها في الانتقال إلى أوروبا عبر المتوسط على الرغم من المخاطر. المهاجر السوري الذي طلب تعريفه بخليل أبو حمد، تمكّن من الوصول إلى إيطاليا عبر السواحل الليبية، يروي قصته قائلاً: (قطعنا الصحراء السودانية الليبية خلال 6 أيام ووصلنا إلى مدينة أجدابيا. نمنا ليلة في مستوع يحرسه مسلحون ليبيون، وفي النهار التالي نقلونا إلى مزرعة في بنغازي). ويضيف: (بعدها جاء جماعة البحر ونقلونا في المساء بشاحنة إلى البحر توقفت عند منطقة اسمها البيضاء. دفعنا ثمن الرحلة عن للفرد الواحد 1250 دولاراً. فتحوا الباب الخلفي فوجدنا المركب يرسو على الشاطئ، كان القبطان مصرياً وكانت معاملته جيدة مع الناس، أما الذين أصعدونا إلى السفينة فكانوا يضربون الناس لتقعد وكانوا قاسين مع السود (ذوي البشراء السوداء) الذين أرغموهم على الجلوس في عنبر السفينة. ثم أبحرت السفينة لمدة 21 ساعة ووجدنا بارجة يونانية أنقذتنا، وعاد المركب إلى الساحل الليبي). ازدهار تجارة مراكب الموت شهادة خليل تعكس الكثير من حقيقة ما يقع في السواحل الليبية. فالمهربون مسلّحون ومنظّمون بشكل جيد، ويملكون شاحنات وعربات رباعية الدفع ويسلكون طرقاً آمنة لا يزعجهم فيها أحد. كما أنهم لا يتورعون عن استعمال القوة ضد المهاجرين، خصوصاً الأفارقة من ذوي البشرة السوداء من أجل تحصيل ثمن الرحلة أو إرغامهم على الصعود إلى المراكب في حال عبّروا عن تخوفهم من حالة المركب وقدرته على إيصالهم إلى السواحل الإيطالية. وهذا ما يؤكده العقيد عمر أيوب قاسم، قائلاً: (للأسف هؤلاء المتاجرون بالبشر لا ضمير لهم وكل ما يهمهم هو أموال المهاجرين المساكين، فهم يشحنونهم كالحيوانات في مراكب مهترئة ولا يراعون طبعاً معايير السلامة والطاقة الاستيعابية المحدودة لهذه المراكب، كما أن المهاجرين أنفسهم لا تجربة لهم مع البحر، وعادة ما يتسببون بأنفسهم في غرق المركب عندما يتحركون إلى جهة ما فيميلون به ويفقدونه التوازن). نشاط مكشوف مافيا تهريب المهاجرين صارت تنشط بشكل مكشوف وفي وضح النهار، خصوصاً في المناطق التي تسيطر عليها المليشيات، بل إنها تشتغل بحرية كأنها وكالات سفر عادية، وخصوصاً أن المهربين صاروا ينقلون المهاجرين وكأنهم في نزهة. فحسب عدة شهادات متطابقة لكثير من الناجين، بمجرد وصول المهربين إلى المياه الدولية يهاتفون البحرية الإيطالية لكي تأتي لانتشال المهاجرين، ثمّ يعودون أدراجهم إلى البر الليبي عبر زوارق سريعة. ووفق دراسة نشرتها أخيراً (وكالة الاتحاد الأوروبي لمراقبة الحدود الخارجية)، فإن مردود مركب يحمل 450 شخصاً يصل إلى حوالي مليون يورو. وهذا ما دفع بالرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند إلى اعتبار المهاجرين إرهابيين، في تصريح عكس الوعي المتزايد بالخطر الذي صار يشكله تجار الرقيق الجدد. تحوّل البحر المتوسط إلى مقبرة مفتوحة بين الضفتين الأوروبية والإفريقية صار حقيقة وليس مجازاً شعرياً. الفاجعة الأخيرة جعلت من ظاهرة الهجرة غير الشرعية في اتجاه السواحل الإيطالية أكبر خطر يهدد أوروبا وينذر بعواقب اقتصادية واجتماعية وسياسية معقدة. بل إن هذه الظاهرة تعادل في درجة خطورتها التهديدات الإرهابية التي تمثّلها التنظيمات الجهادية، مع وجود فارق جوهري. فالأمر لا يتعلق بجماعات مسلحة في حرب ضد أوروبا بل بمأساة إنسانية تجعل مئات الآلاف من الأشخاص يعبرون في موجات ضخمة إلى الضفة الأخرى بأي ثمن، هرباً من جحيم الحروب والفقر والأمراض، ويهلكون في اتجاه قارة لم تعد تتحمل وزر استقبالهم. ولا شك في أن القمة الأوروبية الاستثنائية التي تُعقد غداً الخميس في بروكسيل للتباحث حول سبل الحد من هذه الظاهرة أو على الأقل احتوائها، مُطالَبة أكثر من أي وقت مضى بوضع سياسة فعالة وواضحة المعالم في هذا الملف تنظّم هذه الهجرة لأن سياسة إغلاق الباب وتحصينه لا تمنع التسلل من النافذة.