سيطل علينا رمضان بعد ساعات قليلة، وهو يحمل إلينا فريضة عظيمة من فرائض الإسلام الخمس، وهو شعيرة من شعائر هذا الدين العظيم، والحديث عن رمضان وما يحمل من معان وحكم، وتوجيهات وإرشادات، وما يتضمن من قيم ومبادئ وسلوك، قد أسهب العلماء فيها كثيرا حتى غدا الخوض فيها نوعا من التكرار. مرحبا بالصوم! عبارة توازي عبارة جميلة، وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مرحبًا بطالب العلمِ، إنَّ طالبَ العلمِ لَتَحُفُّه الملائكةُ وتُظِلُّه بأجنحتِها)رواه الطبراني وحسنه الهيثمي والألباني، والسؤال المطروح: هل سنقدم إضافة لما كتب؟. تذكرنا هذه الفريضة بأنها رابط عقدي يربط أمة الإسلام بالأمم السابقة؛ مما يدل على أن الأنبياء، وما جاؤوا به من عند الله بينهم مشتركات تجعلهم، وتجعل أتباعهم في كوكبة واحدة ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) البقرة الآية 183. والإسلام هو خاتم الرسالات، ورسوله خاتم الأنبياء والمرسلين وهو مهيمن على الدين كله، وعلى أتباع الأمم السابقة الدخول في رسالة الإسلام الخاتمة. مدرسة خاصة والصوم مدرسة وهو الامتناع عن الطعام والشراب والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس - تُعْنَى بتربية القلب الذي إن صلح، صلح الجسد كله ((لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ))؛ فالتقوى هي الغاية من الصوم، والتي عرفها أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: (الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل)؛ فإذا انسلخ شهر الصوم، وتحقق مفهوم التقوى في القلوب؛ فتلكم هي التجارة الرابحة، فإذا صام القلب، ثم صامت الجوارح عن أن تأتي ما حرم الله تعالى، فقد تحقق الهدف من الصوم. ((من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه))رواه البخاري وغيره. ((كل عمل ابن آدم له إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به)) (متفق عليه)، هذا هو الصوم الحقيقي الذي يكون جنة لصاحبه يوم القيامة. وهذه جملة من النصوص التي تبين حقيقة الصوم: روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام؛ فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحدٌ أو قاتله، فليقل إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما؛ إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه) متفق عليه. وعن جابر رضي الله عنه: (إذا صمت، فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمآثم ودع أذى الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صومك سواء) رواه الحاكم في معرفة علوم الحديث، وهو أثر معناه صحيح، وسنده ضعيف لأن سلمان بن موسى لم يسمع من جابر بن عبد الله. وعن أبي ذر رضي الله عنه: (إذا صمت فتحفظ ما استطعت). وكان طليق ابن قيس إذا كان يوم صيامه دخل، فلم يخرج إلا إلى صلاة، وكان أبو هريرة وأصحابه إذا صاموا جلسوا في المسجد وقالوا: نطهر صيامنا. فهؤلاء من الصحابة يرون بطلان الصوم بالمعاصي؛ لأنهم خصوا الصوم باجتنابها، وإن كانت حرامًا على المفطر أيضًا، فلو كان الصيام تامًا بها ما كان لتخصيصهم الصوم بالنهي عنها معنى، ولا يُعرَف لهم مخالف من الصحابة رضي الله عنهم. ويؤيد هذا ما روي عن بعض السلف الصالح، فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: (لَيْسَ الصِّيَامُ مِنْ الشَّرَابِ وَالطَّعَامِ وَحْدَهُ وَلَكِنَّهُ مِنْ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ وَاللَّغْوِ). عن ميمون بن مهران: (إن أهون الصوم ترك الطعام والشراب)، وعن النخعي: (كانوا يقولون: الكذب يفطر الصائم). وعن أبي ذر رضي الله عنه: (إذا صمت فتحفظ ما استطعت). ومن هذه المعاصي التي يقع فيها كثير من الناس، الغيبة، قد استدل ابن حزم بهذه الآثار وغيرها، وقال: إن الغيبة تفطر الصائم. والصحيح كما قال جمهورالعلماء: لا تُفطِّر الصائم بالاتفاق، وذلك أن الغيبة مجرد كلام يتلفظ به وقول ينطق به، فلا يدخل في الأكل والشُرب الذي يحصل بتركه الصيام وبفعله الفطر، وقد روي عن بعض العلماء أنهم تأولوا حديث: أفطر الحاجم والمحجوم، فقالوا إنما أفطرا لكونهما يغتابان الناس، فقال الإمام أحمد ردًا على ذلك: (لو كانت الغيبة تُفطر لما صح صوم أحد منا)، أو كما قال، فعلى هذا ينهى الصائم عن اللغو والرفث لقوله صلى الله عليه وسلم: إنما الصيام عن اللغو والرفث ليتم بذلك أجره، فإن خالف وفعل الغيبة، أو اللغو وقول الزور والجهل فقد أثم ونقص أجره ولا يبطل صومه، وهذه الآثار الواردة عن بعض الصحابة وبعض السلف الهدف منها الترهيب والتخويف والتحذير من المعاصي في الصيام، ولكن الصيام إذا توفرت شروطه أو تحققت أركانه، فهو صحيح. وليس في هذا فتح لباب ارتكاب المعصية، بل الغرض هو بيان الحكم، مع التخويف بنقص الأجر، والله تعالى أعلم. والنقطة الثالثة في الموضوع: هي سمة التيسير والتبشير في هذا الدين، وهي تتجلى واضحة في الصوم. فمن يتأمل هذه الفريضة، يجد أن الأحكام الشرعية في هذه الفريضة، تضع نصب غايتها هذه السمة. تأمل رخص الصوم في السفر، والمرض، وعجز الشيخوخة، وفي حال الحيض والنفاس والحمل (بالنسبة للمرأة)؛ كما تأمل ما ذكر من أحاديث في بيان أجر الصوم، وقد خص الله بابا من أبواب الجنة ليدخل منه الصائمون فقط يقال له: الريان، وقد ذكر الله في الحديث القدسي أن أجر الصوم لله تعالى يختص وحده في تقدير جزائه. إن الحديث التأملي عن مدرسة الصوم مشرعة أبوابه لمن أراد الكلام عن هذه الفريضة، ولعل الله أن يهيئ فرصة أخرى لمزيد من التأملات حول معاني الصوم في الإسلام. وعلينا أن نعلم أن صوم الجوارح درجة عظيمة من درجات الصيام. وإن أدناها الامتناع عن الطعام والشراب والشهوة. وللحديث بقية.