اطلعت على بعض الكتب (والحديث لصاحبه) وإذا بصديق لي لم أره منذ سنة كاملة (فأنا طالب في أمريكا) سلمت عليه وتحدثنا حديثاً رفيع المستوى فصاحبي رجل مثقف يعرف مكانة الكتب تحدثنا عن جديد وقديم الكتب ونصحني بقراءة كتاب وأنا بدوري بادلته النصح وأرشدته لكتاب معين. خلال حديثنا دخل المكتبة شاب في مقتبل العمر ضعيف البنية مصفر الوجه قصير جداً ملابسه لم تكن نظيفة! كان يلبس ثوب (دشداشة) وبيده كيس أصفر. زاحمت عقارب الساعة صاحبي فاستأذنني بالرحيل فأنهيت حديثي معه وسلمت عليه سلام المسافر فسفري الجمعة القادمة لأتم دراستي في أمريكا. جلست بجانب البائع على كرسي وعيني تجول في الكتب من حولي وكأنها تجول وتسهو في كنز من الماس والعسجد. فتوقير الكتاب والاستفادة منه ميزان يرفع الله به أقواماً ويحط آخرين وصدق سبحانه إذ بدأ التنزيل بقوله: ((اقرأ)) سورة العلق 1. على هذه الحال والخواطر تجول في نفسي وعقلي تحدثني عن فضيلة العلم والتعلم فاجأني الشاب بقوله: ((السلام عليكم أنت وين ساكن؟)) فحدثتني نفسي أن: لماذا يسألك عن مكان سكنك! ما دخله؟ فقلت له: قريب. ابتسم الشاب ابتسامة كلها براءة وبساطة. وقال بلهجة كويتية فيها نبرة طفولة: ((يا حظك)) وأكمل كلامه ((أنا ساكن في الفردوس وأمشي حتى أصل لحولي لأقرأ في المكتبات. أنا ماعندي فلوس كافية أشتغل وإذا حصلت فلوس آتي للمكتبة وأشتري أي كتاب أرغب فيه)). في هذه اللحظة يأتيني إبليس اللعين يفسد علي الموقف يقول: ((شحات آخر من الشحاتين)). أكمل الشاب كلامه يسألني: ((قرأت كتاب تفسير القرآن العظيم؟)) قلت له: ((نعم قرأت منه لإبن كثير)) فتهلل وجهه وملء شفتيه الابتسام وقال: ((كتاب حلو)). لاحظت من كلامه بأنه خارج من القلب. أكمل الشاب: ((حين تقرأ الكتب الدينية هذه تجعلك تخاف من العذاب وتحب الجنة)). أسلوبه في الكلام كان بسيط جداً وكان يتلعثم في كلامه كأنه طفل. كان غريباً. في هذه اللحظة كلمني البائع بأمر ورددت عليه. ثم أتى الشاب ليسأل البائع عن سعر كتاب معين فأجابه: ((بدينار ونصف)). أطرق الشاب وسكت وعينه تنظر في الكتاب ثم قال بنبرته الطفولية: ((أنا عمري الحين عشرين سنة وأقرأ منذ كنت 18 إذا قرأت أنسى الناس من حولي أنسى أمي وأبي وكل من يناديني)) رد عليه البائع: ((شيء طيب القراءة مفيدة)). أراد الشاب أن يمشي فناداه البائع: ((لا تنسى كيسك)) رجع الشاب مبتسماً وقال: ((هذا الكيس فيه تاريخ)) وأخرج كتاب من الورق الأصفر محروق جانبه ومغبر. فسأله البائع: ((أين وجدت هذا؟)) قال: ((في الشارع وأنا محتفظ فيه وأقرأ منه)). فسأله ثانية: ((ماذا تستفيد منه؟)) فرد الشاب: ((فيه كلام حلو عن الايمان وعن الجهاد)) فقال له البائع: ((لحظة لا تمشي)) وأخرج له كتيب صغير فيه أذكار وأهداه للشاب وقال: ((اقرأ في هذا يفيدك)). تهلل وجه الشاب وملأه الفرح. فرحاً ما رأيت مثله. فتح الكتيب وابتدأ في القراءة وهو يمشي حتى ترك المحل وخرج. أنهيت مشاغلي مع البائع وركبت سيارتي فوجدت الشاب قريباً من حدود منطقة حولي وهو يمشي على قدميه ويقرأ في كتاب الأذكار! وكأنه لم يرفع رأسه مذ خرج من المكتبة! خالجتني عندها عبرة وأثر بي أني أسأت الظن فيه حين قالت لي نفسي ((شحات)). رثيت لحاله فهو لا يملك مالاً يشتري به كتاب. تذكرت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمس مائة عام: نصف يوم)) (صحيح) مشكاة المصابيح 5172. وأنه كما يقول صلى الله عليه وآله وسلم: ((يموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء)) صحيح الترغيب 3138. تفكرت في حالي وقلت الحمد لله عيش الملوك بل أحسن. فالبال مرتاح والضمير مطمئن الله لا يغير علينا. وصدق الشاعر حين قال: النفس تجزع أن تكون فقيرة *** والفقر من غنى يطغيها وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبته *** فجميع ما في الأرض لا يكفيها