تراجع بريق الكتب التي تباع على قارعة الطريق في السنوات الأخيرة بشكل ملفت للانتباه، فرغم أن عدد من يقف أمام طاولات بيع الكتب يبدو للوهلة الأولى معتبرا، غير أن ذلك لا يتعدى الفرجة التي يصنعها فضول المارة، لأن حقيقة الوضع غير ذلك.. فمن يشتري هذا النوع من الكتب التي تباع في الأماكن العمومية يكاد يعد على أصابع اليد الواحدة. ارتأت "الفجر" أن تقترب أكثر من الباعة وتستقصي آراء المواطنين، فكانت لها هذه الجولة في بعض نقاط بيع هذه الكتب بالعاصمة. الوجهة الأولى كانت حديقة البريد المركزي، حيث ارتأينا أن نبدأ حديثنا مع الزبائن.. التقينا لمياء، واحدة من الأوفياء لهذا النوع من الكتب، والتي قالت إن معظم الروايات التي تملكها مصدرها الباعة المتجولون. تراجع الطلب عليها يعود الى ارتفاع أسعارها غير أن لمياء أقلعت عن شرائها في الآونة الأخيرة، مرجعة السبب الى ارتفاع أسعارها التي أصبحت تضاهي أسعار الكتب في المكتبات العامة حسبها، حيث قالت محدثتنا:"في الماضي كان سعر الرواية منها لا يتعدى 100 دج، وهو ما مكنني من جمع العديد من الروايات والكتب، خاصة أنني مولوعة بإبداعات مولود فرعون التي حصلت عليها كلها من الباعة المتجولين"، لكنها بالمقابل لم تستطع منع نفسها من زيارة أماكن بيع هذه الكتب كلما سمحت لها الفرصة، حيث قالت:"لا أتردد في التوقف عند الباعة المتجولين ولو لبرهة لأنني ربما أدمنت هذا النوع من الكتب، كما أنني أعشق تصفح كتب الورق الأصفر". من جهته، نبيل، قال إنه لا يمكن مقارنة ما يعرض على قارعة الطريق بما هو موجود في المكتبات، خاصة ما تعلق بجانب الروايات، لأنه يبحث دوما عن عناوين مميزة لا يجدها سوى لدى الباعة المتجولين. وشاطر نبيل رأي لمياء، إذ لم ينف أن سعر هذه الكتب ارتفع عما كان عليه في السابق، لكن ما باليد حيلة.. فهؤلاء الباعة أيضا يمضون كل اليوم في مواجهة الحر والقر في سبيل بيع كتاب واحد في اليوم، فلا ضير إن زاد سعر هذه الكتب قليلا، وربما كما قال "أدافع عنهم لأنني أقدّر ظروف عملهم، أولأنني لا أستغني عن كتيبات الجيب والروايات التي أحصل عليها دوما من هذه المكتبات المتجولة". البعض يرى فيها مكتبة الفقراء قد يختار البعض الآخر نقاط بيع الكتب المتجولة وجهة له اقتناعا منه أنه سيوفر ولو القليل من المال، وهو ما تلجأ إليه عينة أخرى من المجتمع، مثلما هو حال رشيد، رب عائلة، دون عمل مستقر، وأب لستة أطفال، الذي صارحنا أن اختياره لهذه الكتب يعود إلى محدودية دخله الذي لا يسمح له بشراء كل ما تطلبه فلذات أكباده، لذلك يضطر إلى قصد هذه الأماكن بحثا عما يلبي رغباتهم ويتماشى مع ما يجنيه من أموال، حيث قال:"طالما اشتريت لأطفالي كتبا أدبية تتعلق بالمطلعة والإعراب وغيرها لدى الباعة المتجولين". وأضاف محدثنا "أنا أعتبر هذه النقاط بمثابة مكتبات للفقراء لأنها تمنح لنا فرصة تلبية طلبات أولادنا، كما تساعدنا في توفير بعض الدنانير التي تضاف إلى مبالغ أخرى تدفع لقاء الحصول على متطلبات الحياة اليومية". .. وآخرون يعتبرونها مكتبات نادرة في الوقت الذي يرى فيه البعض نقاط بيع الكتب المتجولة لا تضيف أي جديد للنشاط الثقافي، بحجة أن ما تضمه موجود في الغالب لدى المكتبات، يذهب البعض الآخر إلى وصفها بالمكتبات النادرة، على اعتبار أنها تضم عناوين لا تتوفر عليها حتى أكبر المكتبات خاصة ما تعلق منها بروايات قديمة ونسخ أصلية لكتب ألَفها كبار الأُدباء، وهو ما ذهب إليه أحمد الذي كان بصدد البحث عن بعض عناوين الكاتب باولو كويلو، والذي قال: "القارئ الجزائري لازال يسأل عن رائعة "البؤساء" باللغة الفرنسية وكذا النسخة المترجمة إلى العربية، وغيرها من الروايات والكتب، منها كتب ابن خلدون، المنفلوطي، الأصفهاني، وابن المقفع، وغيرها من الأسماء التي أثرت الحقل الأدبي وتركت بصمة لا تمحوها القرون.. فما بالُك بالسنين". معظم زبائنها من الطلبة فتحنا النقاش أمام أهل الاختصاص من الباعة المتجولين حتى نمنحهم فرصة طرح وجهة نظرهم، فتوجهنا إلى عمي سعيد، الذي حدثنا عن تجربته الطويلة في بيع الكتب على قارعة الطريق، والذي قال إنها بدأت كهواية ثم تحولت شيئا فشيئا إلى إدمان بحكم ولعه بالمطالعة لدرجة أنه لا يتذكر عدد الكتب التي قرأها. وقد أكد لنا عمي سعيد أن الطلب على هذا النوع من الكتب تراجع بشكل ملفت للانتباه في السنوات الأخيرة، كما لم ينف محدثنا ارتفاع أسعارها، مشيرا إلى أن هذه الزيادة مشروعة بحكم غلاء المعيشة. وأضاف أنه "لا يعقل أن نمضي اليوم بأكمله في الشارع من أجل بيع كتاب بثمن لا يتجاوز 100دج"، واستطرد قائلا إن ذلك لم يُثنِه عن الخروج يوميا إلى الشارع لعرض مجموعته المتنوعة أمام المارة عله يفلح في بيع عنوان واحد على الأقل في اليوم، كما لا يتوانى عمي سعيد عن البحث والتقصي على بعض العناوين التي يطلبها منه زبائنه الأوفياء. وعن الشريحة التي تهتم باقتناء هذا النوع من الكتب، قال محدثنا إن معظم زبائنه من الطلبة الجامعيين والأساتذة، رغم أن الجيل الصاعد لا ينشد كثيرا المطالعة على حد قوله، وقد يكون السبب كما أضاف وجود بدائل أخرى تحول بين الشباب والكتب، وفي مقدمتها التكنولوجيا، وقال:"إن شباب اليوم يمضي معظم وقته أمام أجهزة التلفاز والكومبيوتر ولا يخصص وقتا لتصفح ولو كتاب في الشهر، عل عكسنا نحن في الماضي، فعلى قدر بساطة الحياة وصعوبتها، ولأنه لم تكن أمامنا العديد من الخيارات لم نجد بديلا عن الكتاب رفقة وتسلية، وقد يكون الصبر الذي ولد لدينا نعمة الاحتكاك الدائم مع أفضل جليس في الأنام".