ربما لم تحلم ليلى وهى تشاهد أباها البسيط يبيع الخضروات في شوارع تونس أنها ستكون زوجة رئيس هذا البلد بنسبة 99.9%، ولكنها بالتأكيد لم يكن يخطر ببالها بنسبة 100% أن يقتلعها من جاهها بعد أن تتسيد الدولة، ويُلقى بها إلى خارج البلاد بائعٌ للخضروات، احترق قلبه من مظاهر "فساد" عائلتها وحاشيتها قبل أن يحرق جسده؛ احتجاجا على قيام السلطات بمنعه من بيع ما يقتات به. فمن وسط المظاهرات التونسية التى اشتعلت على مدار نحو شهر فور انتحار الشاب الجامعي بائع الخضروات "محمد البوعزيزى" احتجاجا على البطالة والفساد، تلمح صورة لليلى الطرابلسى، زوجة الرئيس التونسى المخلوع، أو من وصفها أحد المعارضين ب"شجرة الزقوم" يهتف من يحملها بكل غضب: "لا لا للطرابلسية الذين نهبوا الميزانية"، فى إشارة إلى تضخم نفوذ عائلة الطرابلسى، بعدما احتلت مناصب كبرى فى الدولة، وتقاسمت فيما بينها قطاعاتها الحيوية، وهو الأمر الذى تحدثت عنه وثائق ويكيليكس المسربة عن تونس، والتى وصفتهم ب"المافيا". ويشاطر عائلة الطرابلسى عددٌ قليل جدا من العائلات الأخرى فى تقاسم ثروات الدولة، وأيضا الاتهامات بالفساد، فإلى جانبها أيضا عائلة الماطرى؛ التي ينتمي إليها زوج إحدى بنات الرئيس المخلوع، وعائلة شيبوب التي تصاهر الرئيس أيضا، وهى عائلات ظهرت فى سنوات حكم بن علي، ولكن أكثرهن "جشعا" هى عائلة الطرابلسى التي تقودها ليلى. ورغم القيود المتينة التى فرضها نظام بن علىّ على حرية الإعلام فى تونس، فإن أحاديث الفساد لم تخفَ عن الشعب التونسي، الذى أخرج مرارته منها فى شكل نكت يتناقلها الناس خفية، أو تنثرها مقالات للمعارضين المنفيين فى الخارج، حتى أصدر الكاتبان الفرنسيان الصحفيان "نيكولا بو" و"كاترين جراسييه" فى أكتوبر 2009 كتابا خصيصا عن فساد عائلة الطرابلسى والعائلات التى تجرها وراءها بعنوان "حاكمة قرطاج.. الاستيلاء على تونس". تحدث الكتاب عن هيمنة ليلى مع إخوتها وأصهارها على "كل شيء" فى تونس؛ فهي تعين وتقيل الوزراء والسفراء والمديرين الكبار كما يحلو لها، كما أنها انتزعت ولاء مدير الأمن والمخابرات التونسية، وبهذا النفوذ كانت فى السنوات الأخيرة التي شهدت تدهور الحالة الصحية ل"بن على" تعرض عليه الملفات التي تريد، وتخفي أخرى كما تريد، حتى وصفت بأنها الحاكم الفعلي لتونس. ولدت ليلى عام 1957 لعائلة بسيطة ماديا، مكونة من أب يعمل بائعا للخضر والفاكهة، وأم و11 صبيا، وبعد حصولها على الشهادة الابتدائية التحقت بمدرسة "الحلاقة" لتعمل فى مجال تزين شعر السيدات وهى فى سن الثامنة عشرة التقت برجل أعمال يدعى خليل معاوى الذى تزوجته قبل أن تطلق منه بعد 3 سنوات. استطاعت بذكائها أن تكون شبكة علاقات قوية مع رجال الأعمال ورجال الجيش، حتى استطاعت العمل بالتجارة في بعض السلع بين تونس وإيطاليا، وفى أحد الأيام ألقى عليها القبض وسحب منها جواز سفرها، حينها طلبت من أحد معارفها، الجنرال طاهر مقرانى، التدخل لاسترجاع الجواز، وليس من المستبعد أن يكون بن على، الذى كان آنذاك مديرا للأمن، قد تعرف عليها فى تلك الفترة. وتزوجت ليلى من بن على بعد طلاقه لزوجته الأولى "نعيمة"، وأنجب منها 3 أبناء: سرين وحليمة، ومحمد، وكان بن على أنجب ثلاث بنات من زوجته الأولى وهنَّ: غزوة ودرصاف وسيرين. فى السنوات التى تلت وصول بن على إلى الحكم، كدس المقربون من النظام ثروات هائلة وفقا لبعض المقربين، لكن لا أحد بسط هيمنته كلية على مصدر هذه الثروات، وهى القطاعات الاقتصادية الهامة للدولة كما فعلت عائلة الطرابلسى. فقد استحوذ أخوها الأكبر بلحسن الطرابلسى على شركة الطيران والكثير من الفنادق ووكالة شركة فورد، وآخرون على قطاعات الهاتف الخلوى والبنوك والتعليم الحر، بل امتدت أعين بعضهم إلى أملاك الآخرين باغتصاب شركات من أصحابها، وحيازة شركات مشبوهة التمويل، وفق ما ورد فى وثائق ويكيليكس. ومن الأمثلة التى أوردتها الوثائق عن "الفساد المالي" لليلى أنها حصلت من الدولة على أرض كمنحة مجانية لبناء مدرسة خاصة، ثم أعادت بيعها. كما تردد أن عماد الطرابلسى سرق "يختاً" بقيمة 1.5 مليون أورو من ميناء ونيفاسيو بكورسيكا، وتورط بلحسن في ابتزاز عمولات في الفضيحة التي هزَّت البنك التونسي. وبحسب كتاب "حاكمة قرطاج" فإن عائلة الطرابلسى وعائلة بن على نجحتا فى التعايش مع بعضهما البعض عبر معادلة يتولى بمقتضاها حلف بن علي قضايا الأمن والملفات الدبلوماسية الحساسة، بينما يهتم حلف الطرابلسى بالعقود والصفقات والهيمنة على المشروعات الكبرى. ليلى والحجاب وإضافة إلى "الفساد المالى" تتهم جهاتٌ معارضة ليلى الطرابلسى ب"الفساد الاجتماعى"؛ حيث يقولون إنها تقف وراء التضييق الشديد الذى تتعرض له الفتيات المحجبات فى تونس، والقوانين التي تخالف الشريعة الإسلامية. وسبق أن ألمحت الكاتبة الفرنسية، وكاترين غراسيي، المُشاركة فى تأليف كتاب "حاكمة قرطاج" إلى علاقة بين تأييد ليلى لهذا التضييق وبين صمت الدول الغربية عن "استفحال فساد" النظام التونسى، حين قالت لفضائية "الجزيرة" نظام بن على "اكتسب رضا الغرب بعد نجاحه فى تجفيف منابع الحركات الإسلامية، والتي لم تعد بعد سنوات من حكمه تشكل خطراً على نظامه وحكمه". ونظراً لكبر سن الرئيس المخلوع بن على (74 عاما) ووجود مادة بالدستور تحظر على من تعدى عمره ال 75 عاماً الترشح للحكم، سعت ليلى لإعداد أحد أقرب المقربين لها لتسلم الحكم من بن على في انتخابات 2014، وهو زوج ابنته الشاب صخر الماطرى، رغم ما يلاحقه من تهم الفساد. وترأست ليلى العديد من المنظمات فى تونس ومنها جمعية "بسمة"، وهى جمعية تعزز الاندماج الاجتماعى، وتوفير فرص العمل للمعاقين، وفى جويلية 2010 أسست "جمعية سيّدة لمكافحة السرطان" وهى جمعية تحمل اسم والدتها، وتعنى بتحسين الرعاية لمرضى السرطان فى تونس. واجتهدت السيدة الأولى المخلوعة والسلطات التونسية فى منع نشر كتاب "حاكمة قرطاج" فى فرنسا، غير أن المحكمة الفرنسية رفضت دعوى لها بهذا الخصوص؛ لأنها لم تستند للنصوص القانونية التى تتيح ملاحقة الكتاب؛ فاقتصر حظرُه على تونس، إلا أن التونسيين استطاعوا الوصول إليه بتداوله عبر الإنترنت. "شجرة الزقوم" موقع "بوابتى" التونسى المعارض كان من أوائل المواقع التى تحدثت عن صدور الكتاب فى عام 2009، بمقالة للدكتور خالد الطراولى، دعا فيها الشعب التونسى بعد قراءة الكتاب أن يختار ما بين 3 خيارات: إما اللامبالاة، أو الاكتفاء بالتنديد والدعاء على عائلتيْ الطرابلسى وبن علي، أو المقاومة. بعد نشر المقالة تعرض الموقع لمضايقات من الأمن التونسي؛ إلى درجة دفعت صاحبه المهندس فوزي مسعود المالك إلى طرح الموقع للبيع، وعلق على ذلك المعارض محمود طرشوبي بمرارة: "ماذا عسانا أن نقول إلا الاحتساب إلى الله، وإلقاء الكرة فى مرمى الشعوب العربية؛ لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ويجب علينا نحن كشعوب اقتلاعهم من جذورهم، وغرس أشجار مثمرة بدل أشجار الزقوم المسلطة علينا". ولكن ترى ما هو شعور الكتاب الثلاثة حالياً، بعد أن فوجئوا باستجابة الشعب التونسي لدعوتهم، وقيامهم بالثورة التي اقتلعت رياحها بالفعل بعضاً من شجرات الزقوم؟ الآن يتردد أن ليلى موجودة فى دبى بعد أن فرت إليها بما استطاعت حمله هى وعدد من أفراد عائلتها خلال التظاهرات التى شهدتها البلاد، بينما بن علي هارب فى السعودية مستجيراً -بعد أن رفضت فرنسا حتى الآن إعطاءه حق اللجوء السياسى- تلاحقه هتافات الشعب التونسى، وهو يردد أشهر عبارة فى نشيده الوطنى "فلا عاش فى تونس من خانها.. ولا عاش من ليس من جندها". * إضافة إلى "الفساد المالى" تتهم جهاتٌ معارضة ليلى الطرابلسى ب"الفساد الاجتماعى"؛ حيث يقولون إنها تقف وراء التضييق الشديد الذى تتعرض له الفتيات المحجبات فى تونس، والقوانين التي تخالف الشريعة الإسلامية.