تابعت الجالية التونسية المقيمة بالجزائر دقيقة بدقيقة الأخبار التي تداولتها وسائل الإعلام العالمية، عشية أول أمس الجمعة، بخصوص خروج الرئيس زين العابدين بن علي من الأراضي التونسية، بعد حوالي شهر من الاضطرابات والاعتصامات والتخريب التي عرفتها المدن التونسية، ونداءات المواطن التونسي الذي اختزل مطالبه في رحيل رئيسه وحاشيته من الحكم، فكان لهم ما أرادوا بأي ثمن· وقصد معرفة آراء بعض المواطنين التونسيين المتواجدين بالجزائر، في هذا الحدث الكبير الذي يعيشه الشارع التونسي ومستقبل هذا البلد، اقتربنا من بعض أفراد هذه الجالية التي تعمل بالجزائر منذ عشريات، غير أن ذلك لم يفقدها الحنين إلى الوطن، ومتابعة ما جرى منذ بداية الأحداث إلى غاية فرار رئيسهم· ولم نجد أية صعوبة أو اعتراض من قبل هؤلاء، بل بالعكس من ذلك، فقد بدوا لنا وكأنهم بدأوا من لحظة سقوط نظام بن علي يمارسون حرية التعبير، ربما لوعيهم بأن الآتي أحسن من الماضي· ورغم أننا اختزلنا بعض الأسئلة التي طرحناها على هؤلاء المواطنين، إلا أن شراهة الحديث عن بلدهم حتمت علينا الدخول معهم في مسائل أخرى تتعدى السؤال التقليدي، ما رأيك فيما جرى بتونس؟ أول تونسي التقينا به وهو عامل في محل لبيع الزلابية، اشترط علينا عدم ذكر اسمه، فكان له ما أراد، وبالمقابل فتح قلبه لنا وسرد علينا آراءه فيما حدث: ''لقد تابعت كل ما جرى ببلدي، منذ الأيام الأولى للاضطرابات والمسيرات التي جرت في بعض المدن التونسية، لأن الأمر كان يهم في اعتقادي كل تونسي عانى من بطش وقهر حقرة الحاكم المستبد بن علي، فالانتفاضة والهبة التي قام بها الشعب التونسي كانت ضد الطغيان والجبروت، وكنت منذ سنوات أنتظر ثورة الشارع التي حدثت ببلدي، لأن المواطن التونسي سكت لعشريات كاملة إلا أنه انتفض اليوم وانفجر''· وبكثير من الكبرياء ومظاهر الحزن التي انتابت محدثنا من حين إلى آخر، ذكّرنا بكل مظاهر الحياة الاجتماعية الصعبة التي يعيشها التونسي مثل غلاء المعيشة، العنصرية، فخيرات البلاد استفاد منها الرئيس وحاشيته ونسبة 99 بالمائة من الشعب التونسي عاش في الذل بعد أن أخذت أرزاقه بالقوة والجبروت· وهو يتحدث إلينا هذا المواطن التونسي الذي لا يتجاوز سنه الأربعين سنة، لم ينس أبناء البلد الذين يرزحون في السجون أو أولئك الذين فروا إلى خارج البلد هروبا من بطش الحاكم وظلمه· اليوم وبعد أن انتهى كابوس التونسيين برحيل من حمّلوه مسؤولية مأساتهم الطويلة، يرى هذا المواطن بعين حالمة مستقبل بلده: ''بصراحة، لقد كنت انتظر خروج الرئيس بن علي بهذه الصورة وهذا الأسلوب، لأنه ببساطة رئيس كذاب، وعدنا بأشياء كثيرة ولم يفِ بوعوده، لقد تخلصت تونس من هذا الطاغوت، وبإمكان كل التونسيين العودة إلى بلدهم دون خوف، وما أرجوه هو أن المسؤولين الذين يتولون -مستقبلا- مهمة تسيير البلاد، أن يشركوا كل الأطياف السياسية ويعملوا على الاهتمام بمعيشة ذلك المواطن البسيط الذي دفع ضريبة كبيرة ليخرج البلد من بوتقة الظلم والطغيان''· نظام بن علي أصبح من الماضي رغم الأيام العصيبة التي مرّ بها المواطن التونسي والقلق الذي انتاب جاليته المتواجدة بالجزائر على مدار شهر كامل، إلا أن أبسط تونسي اليوم ينظر إلى المستقبل بتفاؤل كبير كحال هذا الشاب التونسي الذي أفصح لنا قائلا ''لاشك أن عدد الموتى الذين سقطوا شهداء على أرض تونس الطيبة لم تذهب دماءهم هدرا، بل إن رسالتهم وصلت وهدفهم تحقق وهو سقوط النظام الغاشم وعلينا أن نتطلع إلى المستقبل لضمان عيش كريم للمواطن التونسي وهو حق لا يمكن لأي أحد أن يجرده منه، وما عشناه مع بن علي أصبح من الماضي''· ولم تقتصر النظرة التفاؤلية التي لمسناها من خلال تصريحات وآراء الجالية التونسية على الشباب، بل إن المستجدات الجديدة التي طرأت على البلد عايشها ويعايشها كذلك هذا الشيخ الذي يبلغ من العمر 75 سنة الذي غادر بلده تونس مبكرا في عهد نظام الرئيس بورقيبة وبالتحديد سنة ,1964 وخلافا لما فضّل الشباب التونسي الحديث عنه، عرج هذا الشيخ على ما عاشته البلاد -مؤخرا- ''أولا لم أكن أعتقد بأن بن علي سيغادر السلطة بعد الاضطرابات التي عرفتها تونس، لأنني كنت على يقين بأن هذا الرئيس ينتمي إلى صنف الحكام الذين أحبوا العيش الرغيد على أكتاف التونسي البسيط، لكن ما أود الإشارة إليه هو أن الخراب الذي طال البلد يعتبر خسارة كبيرة لبلد مثل تونس كان قبلة للسياح، فكل شيء اليوم تهدم''· ما ميز تصريحات هذا الشيخ هي الطريقة التي كان يسرد بها تاريخه مع بلده، فهو لم يزر تونس منذ ,1964 وبالتالي فإن علامات الحزن كانت في كل مرة ترتسم على وجهه وتتخللها أحيانا ابتسامة صغيرة عندما يؤكد لنا في كلامه بأنه سيزور مستقبلا تونس وقد انتهى عهد الطغيان: ''أنا الآن أعود إلى بلدي مرتاحا وإن شاء الله سيكون مستقبلها جميلا وسيتمتع المواطنون بحياتهم'' ولما كان هذا الشيخ شاهدا على مراحل عديدة من تاريخ بلده وآلية الحكم هناك، فقد أكد لنا أنه لم يكن ينتظر هذه النهاية السعيدة التي انتهى عليها مسلسل الأزمة، غير أنه في المقابل اعترف بأن ما قام به الشعب يعد بمثابة انتفاضة حقيقية ضد الفقر والحفرة والتهميش والبطالة، لأن ثورة الشباب التونسي المثقف كانت مبنية على مبادىء وأفكار· صيحة شاب تونسي انتقلنا من سماع أقوال هذا الشيخ وقصدنا شابا يدعى ''حمزة'' في مقتبل العمر لا يتعدى سنه 23 سنة، والمفارقة في الرؤية التي قدمها لنا هذا التونسي الشاب والوسيم هو أنه عايش الأحداث التي وقعت وعاش لحظاتها لمدة 15 يوما كاملة· ''بداية أوجه تحية تقدير للشعب التونسي المناضل، فأنا شاب لم يعش فترة حكم الزعيم بورقيبة، لكنني في المقابل عشت مرحلة ما بعد التحول بمجيء بن علي يوم 7 نوفمبر ,1987 لقد شاءت الظروف يوم توفي البوعزيزي أن أكون متواجدا بليبيا، وبعد يومين دخلت إلى تونس ومكثت هناك 15 يوما، وحضرت بداية شرارة الأحداث المأساوية، وعندما عزمت على العودة إلى الجزائر التي عشت بها منذ ,2007 لم أجد المواصلات، الأمر الذي جعلني أمكث بولاية قابس ليلتين صادفت رأس السنة الميلادية، وعندما مررت بولاية قفصة رأيت جدرانا ينبعث منها دخان كثيف، فقلت في نفسي، ربما بعودتي إلى الجزائر، أكون قد نجوت بجلدي وخرجت قبل أن تغلق الأبواب خلفي، وقد تابعت بعدها ما بث عبر الفضائيات من أعمال التخريب والجحيم الذي عاشه الشعب التونسي''· ومثل بقية الجالية التونسية المتواجدة عبر بلدان العالم، تابع ''حمزة'' سرد المشاهد التي علقت بذهنه، حيث أعاد علينا شعارات الشباب التونسي الذي خرج إلى الشارع ونادى بسقوط الرئيس بن علي لمدة شهر كامل والمطالبة بحرية التعبير وتخفيض أسعار المواد الأساسية وتشغيل الشباب· ينظر ''حمزة'' إلى المستقبل بنوع من التفاؤل وهو الذي ينوي العودة إلى بلده إذا تغيرت الأمور: ''أطلب أن يسود الأسلوب الراشد في تسيير البلاد لدى السلطة القادمة، وأنا على يقين بأن مستقبل تونس سيكون بالتأكيد أحسن مما عاشته، لأن شعبنا مثقف وبإمكانه العيش والتعايش حتى بدون رئيس''· بهذه النظرة الثاقبة لمستقبلهم، وبهذه الوسائل تحلم الجالية التونسية المتواجدة بالجزائر عساها تتخلص من رواسب النظام السابق الذي أصبح من الماضي·