بقلم: أمجد ناصر* لم أتيقّن من أن هناك عصراً جديداً تدخله الصحافة إلا بعدما أعلنت صحيفة (الإندبندنت) البريطانية توديع الورق الطباعة الحبر أكشاك البيع والتوزيع والانتماء بالكامل إلى الصحافة الإلكترونية.. أو المستقبل كما تقول (الإندبندنت) التي كانت سبَّاقة في إدخال الصحافة البريطانية ثقيلة الحركة عالم التابلويد لن تكون ورقيةً بعد نحو ثلاثين عاماً من الطباعة. هذا الخبر كان كفيلاً ببعث رعشة باردة في أوصالي. لا مزاح إذن؟ هذه ليست لعبة أولاد؟ الأمر جدّي جداً. لن يقرأ جمهور (الإندبندنت) الصغير والنخبوي قياساً بالصحف الأخرى جريدتهم المفضَّلة وهم على مكاتبهم ولا في مقاهيهم ولا في طريق عودتهم بالمترو بعد يوم عمل طويل إلى بيوتهم. هذه العادة التي اكتسبها بشر كثيرون حتى أصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياتهم مهدّدة اليوم بالزوال. وهي فعلاً تزول. فهذه أول صحيفة بريطانية رصينة تزول من الأكشاك وتتوقف عن إرسال صفحاتها المخرجة إلى المطبعة. لن يكون هناك نيغاتيف ولا رائحة أحبار تزكم (وربما تسمِّم) العاملين في المطابع. لن يدخل الورق المحايد من جهة ويخرج بمواقف مختلفة حيال العالم من الجهة الأخرى. هذا الورق الذي رافق البشر في الكتابة نحو خمسة آلاف سنة لن يكون عليه أن يحمل مقالات الصحافيين ولا قصائد الشعراء ولا تخطيطات الرسامين ولا صور الفوتوغرافيين مرة أخرى. على الأقل في هذه الصحيفة التي غيَّرت شكل الصحافة البريطانية ومادتها عندما دخلت كآخر صحيفة رصينة عالم (فليت ستريت) (شارع الصحافة البريطانية). لهذا القرار الراديكالي لل (إندبندنت) سببه بالطبع فليس الأمر بلا دراسة أو خطة كما أنه ليس بلا سبب مقنع. فقد تراجعت مبيعات الصحيفة على نحو قياسيّ مذ أصبحت مادتها متاحةً على موقعها الإلكتروني. وهذا حصل مع جميع الصحف تقريباً عريقةً وحديثة الصدور غربيةً وعربية. فمن نحو نصف مليون نسخة كانت تطبعها هذه الصحيفة الحداثية شكلاً ومضموناً وصلت في شهر ديسمبر إلى نحو 28 ألف نسخة مقابل تصاعد في تصفح موقعها الإلكتروني بلغ نحو 58 مليون قارئ في الشهر. تراجع درامي في عدد قارئي الصحيفة الورقية مما يعني تراجعاً في الإعلانات أيضاً. اتساع نطاق التوزيع عامل أساسي في توجهات الإعلان إن لم يكن العامل الوحيد على الصعيد التجاري. هذا لم تعد تحقّقه (الإندبندنت). لكن المواقع الإلكترونية للصحف والمجلات لم تتمكَّن حتى الآن من منافسة المطبوعات الورقية في نسبة الإعلانات. لا يزال الإعلان حتى في مواقع الصحف الغربية الكبرى يفضِّل الورق. فما السبب الذي يدفع مطبوعةً مثل (الإندبندنت) إلى التوجه كلياً إلى عالم الديجتال في الوقت الذي لم يكسب فيه هذا العالم معركة الإعلان؟ ربما البعد الرؤيوي. استباق التحوّل التام للصحف والمجلات إلى الديجتال وإيجاد موطئ قدم رياديّة فيه. لكن أيضاً تخفيف النفقات. لا ورق ولا طباعة ولا توزيع ولا مرتجعات ولا تخزين ولا تكديس. كل العمليات الصحافية والتواصلية تجري على شاشة كومبيوتر. لا أعرف كم ستوفّر الصحف التي تهجر عالم الورق إلى الإنترنت. لكنه بالتأكيد كثير. فقسمٌ لا بأس به من ميزانية أية مطبوعة يذهب إلى الجانب الطباعي والتوزيعي بما في ذلك الشحن الخارجي (بالنسبة للصحف العربية الصادرة في الخارج). في الفترة التي أعلنت فيها (الإندبندنت) توقف طبعتها الورقية كانت صحيفة عربية عريقة هي (السفير) تعلن توقفها ورقياً وإلكترونياً. وثمّة من يرشح (النهار) اللبنانية الأكثر عراقةً لمصير مشابه. لم تتوقف (السفير). ولا نعرف ماذا جرى لضمان استمرارها لكنه في كل حال (عامل تمويلي). وهذا من خارج الصحيفة. وخارج (السوق). ومحكومٌ بأسباب لا تطمئن أية مطبوعة على مصيرها. هناك صحف عربية أخرى في الرمق الأخير بسبب تغيُّر مزاج القراءة وعاداتها وأدواتها. هناك عالم إلكتروني يقتحم كل مجال. وهناك جيل ولد مع هذا العالم الجديد وله متطلباتٌ مختلفةٌ عن جيل الآباء. التكنولوجيا التي اخترعها الإنسان تغيّر الناس. تغيِّر المجتمعات. وبالتالي تغيِّر العالم. نحن الآن في عالم يشبه الانقراضات الكبرى التي عرفتها الطبيعة فمن لا يتمكّن من التكيِّف ينقرض.