ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم هذه حقيقة التفاوت بين الناس الشيخ: قسول جلول يختلف الليل والنهار اختلافا منتظما يستوي الأحياء والقرى والبيوت كافة في الانتفاع بضيائه والهدوء في ظلامه لكن ظلام البؤس قسمة لبعض الناس يعيشون فيه أبدا ويفقدون فيه أبصارهم. وجعل شعاع النعمة مشرقا على بعض آخر فهم يعيشون فيه أبدا بمعنى الترف ومظاهره المادية والأدبية عرفها المتقدمون والمتأخرون من سكان هذه الأرض على اختلاف أقطارهم. وللبؤس كذلك وصوره المادية الكئيبة وله معالم عرفها الأسلاف والأخلاف جميعا. وكلا الأمرين من ترف وبؤس تداولا علي أجيال البشر ومن هذا وذاك توجد الطبقات المترفة والطبقات البائسة وبينهما يحدث التظالم الاجتماعي والسياسي. وتنشأ علاقة سببية كما يقول القائل: (إذا افتقر الرجل اتهمه من كان له مؤتمنا وأساء به الظن من كان يظن به حسنا. تأكد أن تفاوت الناس في اقتسام الأرزاق سنة إلهية وأن انقسام الأمم تبعا لذلك إلى طبقات تتفاضل بحسب ما تملك من متاع الحياة وخيراتها أمر طبيعي. قصد إليه الدين بل صرح به القرن الكريم وفي تسويغ ذلك تساق آيات شتي. منها قوله تعالى ((وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْض دَرَجَات لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)) سورة الانعام الآية 165. وقوله عز من قائل (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْض فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ َجْحَدُونَ)) الآية 71 سورة النحل وقوله تعالى (أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون) الآية 23 سورة الزخرف هذه الآيات تدل على أن الله استخلف الناس في الأرض ليعمروها وليكدحوا فيها وفاوت بينهم فيما منح من الوسائل والإمكانات الأدبية والمادية التي تعين على ذلك. والتفاوت في المواهب الإنسانية والجهود الإرادية حقيقة لا ريب فيها. فالناس ليسوا سواء في الذكاء والغباء وليسوا سواء في العمل والكسل. ومن ثم يجب ألا يتساووا في الأجر المادي والأدبي الذي يأخذونه بإزاء طاقتهم وجهدهم. خصائص ونعم إذ أن الله سائل كل امرئ حتما على قدر ما أعطاه من خصائص ومنحه من ملكات!!... وأن التفاضل في الرزق إن جاء من أسبابه المشروعة لا يسوغ أن يكون مثار جشع وحرص بل ينبغي أن يرد الممتازون بالمال بعض ما معهم على من تحت أيديهم من المستحقين له شكر الله على ما ميزهم به من مواهب.. وليس في الدين ما ينفي جعل التفاضل في الرزق تابعا للتفاضل في العلم وخدمة الوطن والمجتمع بل ذلك مفهوم من الآية الأولى ومن غيرها. وأما الآية الأخيرة فهي تشير إلى أن جسم الأمة كجسم الإنسان التفاوت المالي مثل التفاوت العقلي غير معترف بالأساس الجائر للتفاوت المادي بين الناس فهو مقياس باطل لعظمة مزيفة. الناس سواء في الحقوق العامة فحق الحياة مثلا لا ريب فيه لكل إنسان ولا يقبل إهداره لعذر مفتعل فلو أن شخصية كبيرة كما يسمى قتل حمالا لقتل فيه ولو أن عملاقا قتل طفلة لقتل فيها.. ويمكن إحصاء الحقوق العامة وإقامة الشرائع المحترمة لحمايتها وصد العدوان عليها. لكن هناك حقوقا خاصة لابد من تقريرها ويستحيل قبول المساواة فيها وهذه الحقوق تتبع التفاوت الطبيعي الموجود في الأشخاص والأشياء !! إن الحجارة منها ما هو كريم يباع بأغلى الأثمان ومنها ما هو خسيس يترك مكانه لأنه لا يساوي عناء حمله ! الاختلاف في مواد الأرض صورة للاختلاف بين طبائع البشر ومواهبهم. هناك البليد الذي لا يحس القريب من أنفه. وإذا تركنا ميدان المال إلى ميدان النبوة العالي وجدنا هذا التفاوت بارزا قوله تعالى ((تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض مّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَات وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ)) إن هذا التفاوت بين الناس حقيقة لا يمكن إنكارها ولا يمكن لنظام بشري أن يلغيها أو يغض من نتائجها.. وهذا وحده هو المقصود بقول الله (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْض دَرَجَات لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ). ربما كان هذا الرفع بأصل الخلقة وهو كثير وربما كان بتوفير الظروف المعينة على الارتقاء وهو أيضا كثير.. وهنا نسأل: هل معنى رفع الدرجة قرب المنزلة من الله وكسب اختبار الحياة المفروض على الناس أجمعين. والجواب السريع هو: لا إن المواهب الرفيعة تتعرض لتجارب أشق وامتحانات أصعب بقدر ما تميزت به من طاقة وقد فسر القرآن الكريم هذا الاختلاف في الدرجات بأنه أساس للاختلاف في التكليف والابتلاء فقال: (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْض دَرَجَات لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ)) وظاهر مما أوضحنا أن الدرجة غير الطبقة. الدرجة صفة نفسية خاصة أما الطبقة فمجموعة من الناس ادعت لنفسها صفات وحقوقا معينة.. قد تقول من حق المتفوقين من الناس أن يجمعهم عقد خاص بهم ويتميزون به على غيرهم !! ونقول: لو حدث ذلك لفرض هذا العقد على الدنيا نفسه ولما نهض منطق يرفضه. لكن تصور ذلك يناقض واقع التاريخ وسير الجماعة البشرية ولننظر إلى الأمر بإنصاف وروية .. هل هناك طبقات من الناس جمع بينها الذكاء والإنتاج والتفوق والإقدام وانتظم صفوفها طولا وعرضا ؟؟ لكن أن بعض الناس يريد أن يكسب مجدا بدون جهد وتقدما بدون تعب لعل ذلك يعود والغريب أن النظر إلى الأنساب والألوان ما زال يعصف بالعقول قديما وحديثا عرفته الجاهلية العربية وتعرفه المجتمعات الأخرى. إن تحويل الأفضلية والامتياز الفردي إلى تفوق عنصري واستعلاء طبقي غير صحيح وأن هذه من الأمراض الاجتماعية.. وقد عمل الإسلام على هدم هذه الطبقية وإعلاء القيم الإنسانية وحدها وأخذ ذلك الهدم مقصودا صورا شتى تلمحها في الأحاديث التي نسوق إليك طرفا منها.. عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله (ص) يا أبا ذر أترى كثرة المال هو الغني! قلت: نعم يا رسول الله. قال: فترى قلة المال هو الفقر ؟ قلت نعم يا رسول الله. قال: إنما الغني غني القلب والفقر فقر القلب.!! ثم سألني عن رجل في قريش قال: هل تعرف فلانا ؟ قلت: نعم يا رسول الله قال: فكيف تراه ؟ قلت إذا سأل أعطي وإذا حضر أدخل !! قال: ثم سألني عن رجل من أهل الصفة فقال: هل تعرف فلانا ؟ قلت: لا والله ما أعرفه يا رسول الله... فما زال يحليه وينعته حتى عرفته فقلت: قد عرفته يا رسول الله قال: فكيف تراه ؟ قلت: هو رجل مسكين من أهل الصفة. قال: فهو خير من طلاع الأرض من الآخر ! قلت: يا رسول الله أفلا يعطي من بعض ما أعطي من الآخر ؟قال إذا أعطي خيرا فهو أهله. وإذا صرف عنه فقد أعطي حسنة.. وعن أبي سعيد الخدري عن النبي (ص) قال: احتجت الجنة والنار أي نوه كل منهما بشأنه وذكر حجته فقالت النار: في الجبارين والمتكبرين وقالت الجنة: في ضعفاء المسلمين ومساكينهم ! فقضي الله بينهما: إنك الجنة رحمتي أرحم بك من أشاء ! وإنك النار أعذب بك من أشاء ! ولكلكما علي ملؤها. وعن أبي ذر قال لي رسول الله (ص): انظر أرفع رجل في المسجد.. قال: فنظرت فإذا رجل عليه حلة قلت: هذا. قال فانظر أوضع رجل في المسجد ! فنظرت فإذا رجل عليه أخلاق ثياب رثة قلت: هذا. قال أبو ذر: فقال رسول الله (ص): لهذا عند الله خير يوم القيامة من ملء الأرض مثل هذا.. ! إن تلك الأحاديث ما يصح معناها إلا حيث سقناها فإن الإسلام لا يخاصم الغني بل يعده فضل الله على عباده ولا يخاصم الجمال والزينة بل يستحبها للناس ويؤثرهم للمؤمنين خاصة وإنما يرفض احتقار النفس الإنسانية لطوارئ القلة والفقر ويرفض انتقاصها لظروف الثراء والسلطان.