يعتبر من أدبيات الاكتساب المعرفي في الوقت الراهن المعرفة بالمذاهب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، حيث تتقاسم هذه الحقول تقاطعات مشتركة لا تخرج عن كونها ترسيمات للمفاهيم الاجتماعية المحلية أو النابعة من التأثر بالفكر الوارد، وعلى سبيل هذا الذكر تتوارد إلى أذهاننا تصنيفات كثيرة منها تلك التي ترى بأن المجتمع شبكة من الامتدادات المتنافرة التي تشكل بنيته، منتهية إلى ما مفاده أن هذا المجتمع ينقسم إلى طبقات متفاوتة، وربما أمكن الحديث عن وجود طبقية فعلية، إلا أن هذا التقسيم لا يعني ضرورة التمييز بين الناس، وفي هذه الأسطر إطلالة على هذا المحتوى. مذهبان حول التفاوت الطبقي إذا كان التصور الاشتراكي يذهب إلى أن طبيعة الصراع البشري ينتهي بعد أخذ ورد إلى سيادة الطبقة العاملة بوصفها الفئة الغالبة والمُشرَّع لها البقاء بعد اندثار الطبقات الأخرى، فإن الرأسمالية ترى بالنقيض تماما، حيث تتصور أن الصراع الطبقي بذاته حالة ضرورية وأن سلطة المتفوق وسيطرته ضرورة توازنية للمجتمع وأنها من سنن الكون، ولا يتصور مسلم أن يخلو الإسلام من موقف تجاه هذا الاختلاف وأن يحوز رأيا نَصفه نحن المسلمون بالصواب، لما عرفناه من سداد في أحكامه. سُنة الاختلاف إرادة إلهية تناول القرآن الكريم معنى الطبقية في العديد من الآيات التي وَسَمت هذه الظاهرة تحت مسميات مختلفة، منها ما أخذ طابع الوصف الأخلاقي على غرار قوله تعالى "ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض" وقوله " والله فضل بعضكم على بعض في الرزق" وقوله "انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض" وقوله "نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات"، حيث نجد في هذه الآيات ما يبعث الوازع الأخلاقي في ضمائر المسلمين، حين يقرر حقيقة واقعة وهي أن الله سبحانه وتعالى فضل الناس بعضهم على بعض بشتى أنواع التفضيل؛ فضلهم بالرزق، فمنهم الفقير ومنهم الغني، وفضلهم بالجسم فمنهم القوي ومنهم الضعيف، وفضلهم بالعقل فمنهم العالم ومنهم الجاهل، كما فضلهم بالشكل، فمنهم الجميل ومنهم القبيح. حكمة أرضية يقرر القرآن ظاهرة التفاوت بين الناس، وهو يفعل ذلك لحكمة يريدها الله سبحانه وتعالى، يقول "ليبلوكم فيما آتاكم"، إذ لا يمكن ابتلاء الناس إلا بهذا التفاوت، ولو كان الناس كلهم في مستوى واحد من الرزق لما احتاج أحدٌ لأحد، ولم يعد ثمة مسوغ للدعوة لفعل الخيرات وعمل الصالحات، ولا يمكن أن تستقيم الحياة إلا بهذا التفاوت، وذلك أن التفاوت ضروري لتنوع الأدوار المطلوبة لعمارة الأرض، قال تعالى "هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها"، ولو كان جميع الناس نسخًا مكررة ما أمكن أن تقوم الحياة على هذه الأرض على النحو المطلوب، ولبقيت أعمال كثيرة لا نجد لها من يقوم بها، والذي خلق الحياة وأراد لها البقاء والنمو، كما قال "ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين" خلق الكفايات والاستعدادات متفاوتة، تفاوت الأدوار المطلوب أداؤها، ومع أن القرآن قد أقرَّ هذه الظاهرة الإنسانية، إلا أنه لم يكتف بذلك، بل سعى للحد قدر المستطاع من هذا التفاوت. إنفاق الغني على الفقير معالجة اقتصادية رغم سُنة التفاوت بين الناس إلا أن الإسلام سعى على مستوى التفاوت الاقتصادي إلى التقنين من هذا التباعد، حيث طلب من الغني الإنفاق على الفقير ومدِّ يد العون له، قال تعالى "وأنفقوا مما رزقناكم"، وهو على هذا المستوى لم يسع إلى العمل على محاربة ما فطر الله الناس عليه من تفاوت واختلاف، ولم يسع كذلك كما فعلت بعض المذاهب إلى إثارة طبقة ضد أخرى، بل وقف موقفًا متوازنًا لإقامة المجتمع على أساس التوازن بين طبقاته، فليس المقصود إفقار الأغنياء، بل مساعدة الفقراء وتأمين احتياجاتهم، وبالمقابل طلب من الفقير أن لا يتمنى ما فضل الله به غيره من الناس، كما قال تعالى "ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض" ومدح المتعففين من الفقراء، فقال "يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا"، وأيضًا طلب من الناس السعي في طلب الرزق والكد من أجل تحصيله، قال تعالى "هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه"، وقال "لقد خلقنا الإنسان في كبد". العالِم يشرح ويوضح وغير العالِم يجتهد ويسأل إذا نظرنا إلى فارق التكوين بين الناس، حيث بينهم عالم وجاهل، نجد أن القرآن الكريم طلب من العالِم أن يُظهر علمه ولا يكتمه وتوعد من يفعل ذلك أشد الوعيد، قال سبحانه وتعالى "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون"، فالعالِم مطالب بأن يعلم غيره، وبالمقابل حضَّ القرآن غير المتعلم على طلب العلم وميَّز بين العالم وغير العالم، مما يفيد مدح الأول وذم الثاني، قال تعالى "قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون" وقال "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون"، وطلب من غير المتعلم أن يسأل العالم، قال سبحانه "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون"، فالجاهل وغير العالم مطالب بأن يتعلم ويسعى لمغادرة وضعه. تنوع لحساب مؤسسة الحياة الإنسانية قرر القرآن أن الحياة الكونية قائمة على أساس قاعدة "ومن كل شيء خلقنا زوجين"، وعلى أساس هذه القاعدة خلق الله الناس ذكرًا وأنثى وجعل سبحانه ابتداء الرجل رجلاً والمرأة امرأة، وأودع كلا منهما خصائصه المميزة ليؤدي كل واحد وظائف معينة، لا لحسابه الخاص ولا لحساب جنس منهما بذاته، ولكن لحساب هذه الحياة التي تقوم وتنتظم وتستوفي خصائصها وتحقق غايتها عن طريق هذا التنوع بين الجنسين؛ تنوع في الخصائص وتنوع في الوظائف، وتنوع الخصائص وتنوع الوظائف ينشأ تنوع التكاليف والأنصبة والمراكز لحساب مؤسسة الحياة، وقد أقام الله تعالى الحياة الاجتماعية على أساس التفاوت بين الناس، والتفاوت في الأرض ملحوظ بين الناس حسب وسائلهم وأسبابهم واتجاهاتهم وأعمالهم، وسمة التفاوت في مقادير الرزق لا تتخلف أبدا، ولم يقع يوماً حتى في المجتمعات المحكومة بمذاهب موجهة أن تَساوَى جميع الأفراد في الرزق، ودولاب الحياة حين يدور يسخر بعض الناس لبعض، قال تعالى "ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا"، حيث أن دولاب الحياة يدور بالجميع، فيسخر بعض الناس لبعض، فالمقدَّر عليه في الرزق مسخر للمبسوط له في الرزق، والعكس صحيح، فهذا مسخر ليجمع المال فيأكل منه ويرتزق ذاك، وكلاهما مسخر للآخر، سواء بسواء، والتفاوت في الرزق هو الذي يسخر هذا لذاك ويسخر ذاك لهذا. نظام رباني أصوله ثابتة عندما يقرر القرآن الكريم التفاوت بين الناس، فإنه لا يدعو إلى ترسيخ هذا التفاوت وتنظيمه، بل إنه يقرر الحقائق الخالدة المركوزة في فطرة هذا الوجود، الثابتة ثبات السماوات والأرض وقوانينها التي لا تختل ولا تتزعزع، ونسبة التفاوت في الرزق قد تختلف من مجتمع إلى مجتمع ومن نظام إلى نظام، ولكنها لا تنفي ما قرره القرآن عن حقيقة هذا التفاوت الذي تقتضيه طبيعة الحياة البشرية، ومن ثم لم يستطع أصحاب المذاهب المختلفة أن يساووا بين أجر العامل وأجر المهندس ولا بين أجر الجندي وأجر القائد، فالقرآن الكريم "يرسي القواعد الأساسية والحقائق الكلية التي لا تضطرب ولا تتغير ولا تؤثر فيها تطورات الحياة واختلاف النظم وتعدد المذاهب وتنوع البيئات، فهناك سنن للحياة ثابتة، تتحرك الحياة في مجالها، ولكنها لا تخرج عن إطارها، والذين تشغلهم الظواهر المتغيرة عن تدبر الحقائق الثابتة، لا يفطنون لهذا القانون الإلهي الذي يجمع بين الثبات والتغير في صلب الحياة وأطوارها، ويحسبون أن التطور والتغير يتناول حقائق الأشياء كما يتناول أشكالها، ويزعمون أن التطور المستمر يمتنع معه أن تكون هناك قواعد ثابتة لأمر من الأمور وينكرون أن يكون هناك قانون ثابت غير قانون التطور المستمر، فهذا هو القانون الوحيد الذي يؤمنون بثباته"، أما المسلمون فإنهم يرون في واقع الحياة مصداق ما يقرره الله تعالى من وجود الثبات والتغير، متلازمين في كل زاوية من زوايا الكون، وفي كل جانب من جوانب الحياة، "وأقرب ما بين أيدينا من هذا التلازم، ثبات التفاوت في الرزق بين الناس وتغير نسب التفاوت وأسبابه في النظم والمجتمعات". رضاء بقضاء الله أقرّ القرآن الكريم ظاهرة التفاوت بين الناس واعتبر ذلك من المقتضيات الملازمة لاستمرار هذه الحياة، ودعا في الوقت نفسه إلى تقليل هذه التفاوت قدر المستطاع، لكنه لم يسع إلى إلغائه، لأن في ذلك إلغاءً لسنة من سنن الحياة، مما يعني التناقض بين ما قرره القرآن وبين السنن التي أقام الله عليها هذا الكون، حتى لَيبقى العلاج الإسلامي لهذه الظاهرة علاجا تربويا في أنفس المؤمنين الذي يقتنعون ويرضون بسنة الكون، دون أن يمنعهم ذلك من السعي لتهذيب ذواتهم عن الاستعلاء وحسن التأدب بما خلق الله من نظام لهذا الوجود.