بقلم: أحمد بن السائح* *التخطيط والإستعداد وكان لقدرة زيغود التكتيكية والتنظيمية والتكيف مع أيَّة واقعة حال أو نازلة من النوازل المستعصية النصيب الوافر لإيجاد الحلول الملائمة فضلا عن التخطيط المحكم الذي يكون بمثابة البدائل الجديدة التي يطرحها في مجال المواجهة والْعِرَاكِ والتفوق على الخصم في الوقت المناسب بفضل عبقريته وتجربته الميدانية في المجالين العسكري والسياسي. وقد استطاع زيغود أن يعبئ الجماهير ويجعل منها قوة أساسية مندفعة كالموج الجارف. وبعد إحكام خطته انقض على مواقع العدو بغتة وأربك دفاعاته وشَلَّ قدرته على المقاومة ودَمَّرَ تحصيناته وقطع عنه وسائل المدد والنجدة في ذلك اليوم المشهود الذي سيظل يوما مُتَمَيِّزًا في تاريخ الثورة المباركة. كان من المُقَرَّرِ أن يجتمع قائد المنطقة الثانية الشهيد البطل زيغود يوسف برجالاته من إطارات المنطقة الثانية ومسؤوليها ب: ((بوساطور)) وكانت أعين العدو التي لا تنام تترصد تحركات المجاهدين وتأكدت من حقيقة عقد الإجتماع المقبل لقادة جيش التحرير وبدوره اكتشف القائد الملهم خطة العدو واستيقن أن الإجتماع الذي رَتَّبَ له أصبح مُفَخَّخًا وكعادته سارع العدو بقصف المجاهدين بوساطة طيرانه يوم 20 جوان 1955 مِ وكانت معركة ضارية تصدت لها كتائب جيش التحرير وأرغمتها على التراجع وبعد هذه المعركة تحول مكان الإجتماع إلى كدية داود بجبل الزمان بنواحي سيدي مزغيش حيث اجتمع يوم 23 / 07 / 1955 مِ البطل زيغود يوسف بصحبه وجنده وحوارييه من مسؤولي الشمال القسنطيني وكان في طليعة الحضور نائبه لخضر بن طوبال وعمار بن عودة ومسعود بوجريو وعلي كافي وصالح بوبنيدر ومحمد دخيل وإسماعيل زيغد وبشير بوقادوم وعمار الشطايبي... وعلى مدى أسبوع كامل تدارس المجتمعون الوضعية العامة لمسارات العمل الثوري ونتائجه منذ الفاتح نوفمبر وكان تقييم القادة لكل التفاصيل والجزئيات وأجمعوا في نهاية المطاف على الكلمة السواء لتغيير الراهن البئيس وفك الحصار على المنطقة الأولى (الأوراس) وتعميم الثورة وإعطائها الطابع الشعبي والعلني لقطع دابر الدعاية الإستدمارية التي ظلت مكبرات صوتها الإعلامي المتخلف تُرَوِّجُ للأكاذيب وتعمل على تعتيم حقيقة وواقع الثورة وتزعم أنها ليست سوى تمرد لصوص وقطاع طرق وخارجين عن القانون. وفي ختام إجتماعهم بكدية داود بجبل الزمان صادق الشهيد البطل وصحبه على تنفيذ خطة عملية وبرمجة هجومات كاسحة وشاملة على كافة النطاق القسنطيني وتحديد منتصف النهار ليوم 20 أوت 1955 مِ بداية للهجوم الشعبي العنيف الذي يستهدف كل المنشآت والمؤسسات الإقتصادية ومزارع المعمرين وثكنات الجيش والدرك وكافة مراكز الأمن والإدارات وكل ما له صلة بمناشط وحياة الأوروبيين واختصرت مدة الهجمات في ثلاثة أيام بدلا من الأيام السبعة التي كانت مقررة. هجومات الشمال القسنطيني المظفرة: والواقع أن عمليات الهجوم المختلفة في ذلك اليوم الأغر غطت كافة المواقع التي حددتها خطة الهجوم في كل أنحاء الشمال القسنطيني وكان عدد العمليات المبرمجة 39 عملية تمت كلها بنجاح وكانت أشبه حالا إلى حَدّ ما بعمليات ليلة أول نوفمبر من حيث الدقة في التنفيذ والحفاظ على سرية تاريخ الهجوم وتوقيته بَلْهَ الجاهزية التامة والإستعداد الكامل للتدخل في الوقت المحدد والإنقضاض بسرعة البرق الخاطف على أهداف العدو ومراكزه وتخريب منشآته والنيل منه كما كان ينال من الشعب وإيلامه في الأعماق كما كان يُنَكِّلُ بالأسرى مُطْلِقًا العنان لساديته التي لا تَبْشَمُ من الدماء. ولعل الفارق بين هذه الهجومات وليلة أول نوفمبر أن هذه الأخيرة كانت في منتصف الليل وتلك الهجومات المظفرة جرت وقائعها في منتصف النهار وعَمَّتْ عمليات ليلة أول نوفمبر كامل التراب الوطني واقتصرت هجومات 20 أوت 1955 مِ على الشمال القسنطيني وحده دون سواه. وقد شمل الهجوم التاريخي كافة الأرياف والقرى والمداشر التي كانت مدرجة في أجندة التخطيط وكانت جميعها ناجحة لِعَامِلي السرية والمباغتة اللتان شَلَّتَا تفكير العدو وجعلتا ردود فعله تتباطأ وتتراجع نتيجة للصدمة التي لَمْ يتوقعها على الإطلاق. ومن أهم تلك المدن والمداشر التي شهدت ملحمة ذلك اليوم الخالد وزَحَفَ مجاهدوها زحفًا كاسحًا ومُؤَزَّرًا على مراكز العدو وتحصيناته ومَسَّتْ مدن ومداشر: سكيكدة الحروش عزابة عنابة اسمندو القل سيدي مزغيش القرارم السطارة ديدوش مراد هضبة الزيتون قسنطينة وادي الزناتي رمضان جمال الأربعاء أم الطوب فج الخميس عين عبيد تاملوكة عين قشرة الخروب عين رقادة سيدي معروف الميلية جيجلقالمة... إلى غيرها من بقية المدن والمشاتي والمداشر الأخرى التي كانت مسرحا للبطولة والفداء وما شهدته العديد من النواحي على مدى ثلاثة أيام كاملة (20 21 22 أوت 1955 مِ ). وتركزت أعمال المهاجمة على الحرق وتخريب أملاك الكولون وإتلاف الفلين وإسقاط الأشجار العملاقة وإشعالها في الطرقات لتكون سَدًّا أمام وسائل النجدة وإبعادًا للطائرات من الإقتراب بسبب الأدخنة والإشتعال بالإضافة إلى اقتلاع مسافات طويلة من قضبان السكة الحديدية وتحطيم الجسور وقطع خطوط الهاتف والكهرباء وحتى حنفيات الماء ومساكن الأوروبيين وحراس الغابات كانت لقمة سائغة للهجوم الكاسح الذي أتى على كل شيئ له صلة بالإستدمار وأعوانه. ولَمْ يقتصر الهجوم العنيف على الحرق والتدمير فحسب بل دارت معارك حامية تكبد فيها المحتل البغيض من الخسائر المادية في عتاده ووسائله العسكرية فضلا عن سقوط الأعداد الهائلة من ضباطه وجنوده. وتعرضت مرافق الإدارة الفرنسية بدورها للهجومات الضارية كما حدث لمدينة الحروش المحصنة التي دارت فيها معارك عنيفة واحتل المجاهدون دار العدالة بما فيها من أرشيف ووثائق هامة وتحصنوا بداخلها من بداية الهجوم إلى الرابعة مساء ولَمْ تجد السلطات الإستدمارية من سبيل لتحريرها واسترجاعها إلا بقصفها بالمدفعية الثقيلة التي تصدى لها المجاهدون الأشاوس وقاوموا العدوان بثبات ورجولة وكان الإستشهاد في سماء الشمال القسنطيني تَحُفُّهُ ملائكة الرحمن في مواكب مبتهجة بالأحياء الذين هم عند ربهم يرزقون. وطَوَّقَتْ كتائب الثوار العدو من كل جانب وأتت على أغلب منشآته وقواعده وحُرِقَ الكثير من ضيعات المعمرين وقُتِل كل من كان يتعاونُ معهم وتَمَّ الهجوم التاريخي بوساطة ما توافر من مختلف أشكال الأسلحة سواء كانت نارية أم بيضاء. وكان الشعب الذي كان دائما هو الضحية للعدوان الفرنسي حاضرا في ميدان المجابهة والإستشهاد بمشاركته الفعلية إلى جانب أبطال جيش التحرير في هذا اليوم المفخرة كما كانت فئات أخرى من الشعب على موعد للمساندة بدعمها المادي والمعنوي وبمؤازرتها الفعالة التي كانت عاملا أساسيا لإنجاح تاريخية هذا الأيام البالغة الأهمية بالنسبة لمستقبل الكفاح المسلح الذي طبع الثورة بطابع القوة والتحدي وجعلها تنتصر في المجالين السياسي والدبلوماسي على مخططات العدو وحملات أكاذيبه التي فضحتها هجومات 20 أوت 1955 مِ وأظهرت للعالم الحر زيف الطروحات الفرنسية ومدى تفاهة تحليلاتها القائلة: (( أنها ثورة متمردين وخارجين عن القانون )) وهي الأسطوانة المشروخة التي تجاوزها الزمن وأثبت واقع الثورة الجزائرية سذاجة مستمعيها فضلا عن تصديقها أو الإيمان بما تتضمنه من أكاذيب واختلاق وعلى الرغم من ذلك لا تزال إدارة الإحتلال تعمل على تسليع تلك الأسطوانة لتشويه صورة الثورة بالتحامل المغرض على مسارها وتطورها وانتصاراتها. وظلت هستيريا الكيد الكولونيالي تراهن على جدوى مشروع مقولاتها الكاذبة على أنها الحقيقة المطلقة !!! حين أدلى الحاكم العام للجزائر (جاك سوستال) يوم 19 أوت 1955 مِ أثناء تواجده بمنطقة الأوراس المحاصرة حيث صَرَّحَ: ((إن الثقة قد عادت وإن الفلاحين قد نفضوا أيديهم من المتمردين وصاروا يحرصون بأنفسهم حقولهم وغلالهم حتى لا يهجم عليها المتمردون.)) !!! أ. ه ( ). وهذا الكلام تلفَّظَ به كبير كبراء الغطرسة والإستكبار قبل أقل من أربع وعشرين ساعة من فصل الخطاب الصادق الذي كان ملحمة شاملة لأقدس المعارك وأروع البطولات في ميادين الوغى وفي واضحة نهار 20 أوت 1955 مِ . يتبع..