الجزء الأول أثارت الفتوى الصادرة عن أحد أساتذة الحديث بجامعة الأزهر الشريف حول »إرضاع الكبير« كثيراً من الحيرة والتساؤلات حول صحة القصة التى نسبت إليها الفتوى، وأصبح السؤال الذى يدور الآن فى الأذهان، هل الرضاعة في الكبر تحرم الزواج بين الرضيع ومن أرضعه؟ وهل ما ورد في قصة سالم أنه رضع وهو كبير من السيدة سهلة.... هل هذه القصة صحيحة؟ فبعض الناس يرى أن هذه القصة لا بد أن يحكم عليها بالبطلان حتى وإن جاءت في البخاري مسلم؟ يقول فضيلة العلامة الدكتور يوسف القرضاوي فى رده على هذه التساءلات: ...عمدة القائلين بأن الرضاعة تحرم ولو في الكبر: حديث عائشة وأم سلمة المشهور في قصة سهلة بنت سهيل امرأة أبي حذيفة بن عتبة ومولاهما سالم، والذي أخرجه الشيخان وأصحاب السنن والمصنفات والمسانيد. ففي صحيح مسلم، عن عائشة قالت:جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم وهو حليفه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرضعيه قالت: وكيف أرضعه وهو رجل كبير؟! فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قد علمت أنه رجل كبير. وفي رواية أخرى لمسلم عن عائشة أيضا: »أن سالما مولى أبي حذيفة كان مع أبي حذيفة وأهله في بيتهم، فأتت (تعني ابنة سهيل) النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن سالما قد بلغ ما يبلغ الرجال، وعقل ما عقلوا، وأنه يدخل علينا، وإني أظن أن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئا. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أرضعيه تحرمي عليه، ويذهب الذي في نفس أبي حذيفة فرجعت، فقالت: إني قد أرضعته فذهب الذي في نفس أبي حذيفة. ولم يكن سالم بالنسبة لأبي حذيفة وأهله مجرد شخص أو حليف يعيش معهم في بيتهم، بل كان يعد واحدا منهم، وابنا لهم، إذ كان أبو حذيفة قد تبناه في الجاهلية، واعتبره ابنا له سنين عددا، حتى أبطل الإسلام التبني، وقد بينت ذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في رواية لها عند البخاري والبرقاني وأبي داود والبهيقي وغيرهم. فروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها: أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس وكان ممن شهد بدرا مع النبي صلى الله عليه وسلم تبنى سالما وأنكحه بنت أخيه هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة، وهو مولى لامرأة من الأنصار، كما تبنى النبي صلى الله عليه وسلم زيدا، وكان من تبنى رجلا في الجاهلية دعاه الناس إليه، وورث من ميراثه، حتى أنزل الله: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ) (الأحزاب:5) فردوا إلى آبائهم فمن لم يعلم له أب كان مولى وأخا في الدين، فجاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو القرشي ثم العامري وهي امرأة ابي حذيفة بن عتبة النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إنا كنا نرى سالما ولدا، وقد أنزل الله فيه ما قد علمت.. فذكر الحديث. قال الحافظ ابن حجر في »الفتح«: ساق بقيته البرقاني وأبو داود »فكيف ترى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرضعيه. فأرضعته خمس رضعات، فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة«. فبذلك كانت عائشة تأمر بنات إخوتها وبنات أخواتها أن يرضعن من أحبت عائشة أن يراها ويدخل عليها وإن كان كبيرا خمس رضعات ثم يدخل عليها، وأبت أم سلمة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلن عليهن بتلك الرضاعة أحدا من الناس حتى يرضع في المهد. وفي صحيح مسلم عن زينب بنت أم سلمة: أن أم سلمة قالت لعائشة: إنه يدخل عليك الغلام الأيفع »أي الذي قارب البلوغ« الذي ما أحب أن يدخل علي... فقالت عائشة: أما لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة؟ وذكرت قصة امراة أبي حذيفة. وفي مسلم أيضا عن زينب: أن أمها أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقول: أبى سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلن عليهن أحدا بتلك الرضاعة وقلن لعائشة: والله ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لسالم خاصة، فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة ولا رائينا«. وهذا أي حمل الحديث على الخصوصية لسالم هو أحد المخارج من هذا الحديث الذي جاء مُخالفاً لما دلت عليه الدلائل التي سقناها من قبل: أن الرضاعة المؤثرة ما كانت في وقت الصغر وتكوين اللحم والعظم. وحكى الإمام الخطابي عن عامة أهل العلم: أنهم حملوا الأمر في ذلك على أحد وجهين: إما على الخصوص وإما على النسخ، ونحوه عن ابن المنذر. وقد تعقبت دعوى النسخ بأنه متوقف على معرفة التاريخ. على أن قولها للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف أرضعه وهو رجل كبير؟، دالّ على تأخره عما دل على اعتبار الصغر. فلم يبق إلا أنها واقعة عين توقف على محلها. ودافع بعض العلماء عن عائشة بأن الأصل عدم الخصوصية والتخصيص يفتقر إلى دليل وأين هو؟ وأجيب: إن الدليل هو الآية والأحاديث والآثار التي قيدت الرضاعة بما كان في الحولين وفي الثدي أي وقت حاجة الرضيع إليه، واستغنائه به، وهذا التأويل هو ما فهمته أم سلمة وسائر أمهات المؤمنين. يؤيد ذلك أن مباشرة الرجل الأجنبية ممنوعة قطعا بالإجماع. وهو حكمٌ عام مستمر، فهذا أقوى من الحديث المذكور. فيتعين صحة اجتهاد أم سلمة ومن معها، وخطأ اجتهادها، رضي الله عنهن جميعا.