بقلم: علي محمد فخرو ما عاد موضوع الرأسمالية العولمية المتوحشة المحكومة إلى أبعد الحدود بفكر وثقافة الأيديولوجية النيولبرالية موضوعا أكاديميا. فنتائج ممارساتها وتطبيق ادعاءاتها أصبحت جزءا من الواقع تعيشه الغالبية الساحقة من البشر عبر العالم كله بما فيه الوطن العربى وساكنيه. بعض تلك النتائج تتمثل فى تدمير وتلويث للبيئة بصور متعاظمة وفى ازدياد أعداد الفقراء والمهمشين بينما تتقلص الطبقة الوسطى وتتركز ثروات هائلة فى يد طبقة غنية ضئيلة الحجم وفى إعلانات متتالية لنهاية الحداثة والتاريخ والإيديولوجيات والدولة القومية والتعاضد المجتمعى بينما تتصاعد بشكل مذهل الفردية الأنانية الاستهلاكية المنغلقة على نفسها فى عوالم متخيلة من التواصل الاجتماعى الإلكترونى وفى ازدياد أعداد العاطلين عن العمل وارتفاع جنونى لأسعار كل شىء معيشى أساسى الأمر الذى أدى إلى مظاهرات الجياع واليائسين والكافرين بالسياسية والسياسيين وفى تراجع واضح لصوت المثقفين الملتزمين بينما ترتفع إلى عنان السماء أصوات الشعبويين المتعصبين الانتهازيين. المرعب هو أن المستقبل أصبح يتلخص فى مزيد من خيارات وتلوينات الحاضر مما يشيع اليأس من المستقبل. هذا الوضع الكارثى يحتاج إلى مرجعيات فكرية وقيمية أخلاقية لتحليله ونقده نقدا موضوعيا وتقديم حلول معقولة واقعية شاملة غير مجزأة غير متنافرة وذلك للخروج من الجحيم المعيشى الاقتصادى وبالتالى السياسى والاجتماعى والثقافى والروحى الذى تعيشه الإنسانية حاليا. من بين أهم تلك المرجعيات الفكر التحليلى النقدى الاشتراكى الماركسى الذى يعد أهم وأشمل وأعمق نقد للرأسمالية: فكرا ونهجا وممارسة ونتائج. لنذكر أنفسنا بأن هذه المدرسة هى التى أدركت حتمية التغير الدائم لشكل الرأسمالية بما فيه التنبؤ بمجىء العولمة الرأسمالية التى نراها أمامنا. فى قلب ما نذكر به أن الشعار فى الماضى كان: إما الاشتراكية أو البربرية. أما اليوم فقد أصبح الشعار الممارس هو: أن الرأسمالية مع البربرية تتعايشان بدون حرج. كمقارنة يستطيع مداحو الرأسمالية الإشارة بفخر إلى إنجازاتها التكنولوجية الهائلة وجوانب الرخاء المادية والترفيهية الكثيرة فى مدن العالم المتقدم وبعض مدن العالم الثالث ولكنهم فى زخم هذه النشوة ينسون مقدار التراجعات والانتكاسات فى التزامات دولة الرعاية الاجتماعية الديمقراطية التى جىء بها بعد الحرب العالمية الثانية كحل وسط بين ثورية الفكر الاشتراكى ومحافظة الفكر الليبرالى الرأسمالى. وهم يتعامون عن رؤية الاندفاع الجنونى نحو خصخصة كل الخدمات والمكتسبات العامة وذلك باسم تفوق كفاءة السوق على كفاءة سلطات الدولة. لا أحد ينكر العديد من النقاط الإيجابية فى تاريخ الرأسمالية لكن ألم تكن هناك نقاط إيجابية فى بعض الأنظمة الاشتراكية. هل ننسى توفير السكن المعقول الرخيص للملايين والطاقة الرخيصة والنقليات العامة شبه المجانية ومساندة ونشر الثقافة والفنون الرفيعة المستوى والاقتراب من حالة غياب البطالة المذلة لإنسانية الإنسان وكرامته والتشريعات الكثيرة للقضاء على مظاهر اللامساواة بسبب الجنس أو الأصول العرقية أو الانتماءات الطبقية؟ نعم لقد حدثت تجاوزات كثيرة فى مواضيع أساسية من مثل حق الملكية وممارسة الحريات العامة والشخصية وضرورة التعددية السياسية والثقافية والتزام بإدارة المجتمعات على أسس ديمقراطية عادلة وغيرها كثير. لكن كل ذلك كان خروجا على المنطلقات الأساسية الإنسانية للفكر الاشتراكى وكان تزمتا إيديولوجيا غير مبرر. فالكثير من المنظرين الاشتراكيين بما فيهم ماركس كانوا من أشد منتقدى الدوغمائية الأيديولوجية وضد ممارسات الرعب الأمنى والقمع السياسى وتسلط الدولة غير القانونى العادل. وكانوا يشددون على أهمية محاسبة المنتخبين من قبل المواطنين وعلى ضرورة حرية التعبير والحريات المدنية وعلى حق الفلاحين غير الراغبين فى عدم الانضمام للملكيات التعاونية العامة وعلى ضرورة وجود السوق ولكن المقنن المنضبط حيث التنافس عادل وعلى اقتصاد يجمع بين متطلبات السوق والتزامات الدولة وعلى عدم تطبيق إجراءات اقتصادية كبيرة إلا بعد مناقشات عامة مقارنة لمختلف الخيارات وعلى وجود انتخابات حرة فى مؤسسات المجتمع المدنى بما فيها النقابات وعلى استقلالية معقولة لمؤسسات الثقافة والفنون والإعلام بحيث لا تخضع لسلطات الدولة من جهة ولا لسلطة المال من جهة أخرى. ما سبق هو قطرة من بحر متلاطم من الأفكار التى طرحها مختلف المنظرين الاشتراكيين. وهى تدل على أن حقلى الفكر الرأسمالى والاشتراكى قابلان للتطوير المستمر والمراجعة الدائمة وعلى ضرورة التوقف عن ممارسة الدوغمائية فى كليهما. هل كل ذلك يشملنا نحن العرب؟ بالطبع الجواب هو نعم إذ لدينا تجاربنا الذاتية فى حقلى الرأسمالية والاشتراكية تجارب ناجحة وتجارب فاشلة آن أوان مراجعتها والاستفادة من النقاشات الدائرة فى كل العالم. كما آن أوان الاستفادة العميقة العلمية من المحددات التى يزخر بها تراثنا العربى والإسلامى. ولقد كتب الكثير عن هذا الجانب مما يستدعى العودة إلى عرض بعضه فى المستقبل لتكتمل صورة المراجعة لتشمل الفكر الضابط للاقتصاد من جهة وللقيم الأخلاقية الضابطة من جهة أخرى.