بقلم: الدكتور بوعلام بطاطاش* هناك عدة طرق للوصول إلى تحقيق مطالب الشعب إذ يمكن تغيير منظومة الحكم عن طريق إعادة صياغة الدستور والقوانين المنظمة للجمهورية على النحو الذي نجعل فيه السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية تتساوى بحيث لا تهيمن سلطة على أخرى وتؤدي كل واحدة منها عملها على النحو المنشود: السلطة التنفيذية تراقب عملها كلا من السلطتين التشريعية والقضائية في حين تراقب المحكمة الدستورية كلا من السلطة التشريعية والتنفيذية أما عمل الجيش فسيكون محصورا في ضمان أمن وسلامة حدود الوطن من أي اعتداء. ويمكن الوصول إلى ذلك عن طريق عدة آليات كانتخاب مجلس تأسيسي أو تعيين لجنة من المختصين لمراجعة مواد الدستور والقوانين المسيّرة لمختلف هياكل الدولة...لكن ما يجب التأكيد عليه هو مدى حدود التحوّل المنشود إن كان تعديلا طفيفا أو تغييرا جذريا فالمراد الآن إحداث تغيير حقيقي وملموس يمكن أن يدفع بالجزائر لأن تكون مثالا يحتذى به لا من قبل الدول النامية فحسب بل حتى من قبل الدول التي كانت تقدّم لنا دروسا في الديمقراطية لكون أنظمتها في الحقيقة مليئة بالتناقضات فعلى سبيل المثال النظام الفرنسي الذي استشهدنا به في بداية المقال عرف جمهوريته الخامسة بعد المساومات التي وضعها ديغول للعودة إلى الحكم أثناء بلوغ الأزمة في فرنسا أوجها بعد صمود ثورة التحرير فالدستور الذي وضع على مقاس ديغول آنذاك لا يضمن التوازن بين السلطات لأن رئيس الجمهورية يملك صلاحيات كثيرة يستطيع وفقها التعدي على السلطتين التشريعية والقانونية كالحصانة التي يتمتع بها أو إلغاء الأحكام القضائية أو إمكانية حلّ الغرفة السفلى متى شاء الأمر الذي أدى بفرنسا أن تسّير في بعض المراحل من تاريخها باتجاهين مختلفين عندما لا ينتمي الرئيس إلى الأغلبية التي يقودها رئيس حكومته. إن الأزمة السياسية في الجزائر مردها إلى قيام السلطات بعد الاستقلال مباشرة بنسخ النظام الفرنسي بمختلف قوانينه وتشريعاته وتطبيقه على الجزائر. كان من الضروري في تلك الحقبة المرور بفترة انتقالية تتمكن فيها السلطة الفتية من بسط سيطرتها على مختلف مناطق البلاد والبحث في الوقت نفسه عن طبيعة النظام الذي يمكن للجزائر العمل به وذلك عن طريق المقارنة بين مختلف الأنظمة المتواجدة في العالم. لكن الذي حدث أن قوى خارجية فرضت منطقها على أفراد معيّنين من السلطة الحاكمة وهؤلاء أجبروا البقية على إتباع النهج المسطّر لهم عن طريق القوة ومن هنا بدأ الخروج عن سكة الديمقراطية ونشأ مبدأ الوصاية وهو أمر تشترك فيه جميع الأنظمة التي انبثقت عن الثورات فالزعماء يعتقدون أنهم المتسببون في استقلال البلاد وأن آراءهم دوما سليمة ولا يحق لأحد معارضتها. إشكالية النظام في الجزائر تقوم على بعض النقاط التي نراها في غاية الأهمية بحكم أنها ترتبط بإعادة هندسة الآليات المتبعة بحيث تتماشى مع أسس الديمقراطية الحقيقية لا كشعارات تردّد في الخطابات وإنما كقوانين تعيد ترتيب المسؤوليات على نحو سليم يضمن العدالة الاجتماعية. فأول شيء يجب تغييره هو تسمية الدولة فالأصل أن نتبنى تسمية الجمهورية الجزائرية وأن نتخلى عن عبارة الديمقراطية الشعبية التي ورثناها عن الاتحاد السوفياتي وهي شعار للأنظمة غير الديمقراطية لكونها تقوم على فرض اتجاه معّين من أعلى هرم السلطة ولا يملك الشعب حرية ابداء الرأي أو المعارضة وهذا ما وقع فيه نظام الحكم في الجزائر الذي كان يسيّر البلد على هواه معتمدا في البداية على الاشتراكية ونظام المخططات لينقلنا بين عشية وأخرى إلى الرأسمالية التي حطّمت القدرة الشرائية للمواطنين وأفرزت في المقابل أباطرة فاسدين في التجارة والاقتصاد. ضف إلى ذلك كله نظام تعيين الاطارات السامية المسيّرة للحياة اليومية للشعب فالديمقراطية الحقيقية تنص على أن المسار السليم هو أن يختار الشعب مسيّريه من الأسفل إلى الأعلى لا العكس بحيث أصبح المسؤول الأعلى في البلاد والمتمثل في شخص الرئيس أو مستشاريه أو وزراءه يفرضون أشخاص معيّنين على مختلف القطاعات من مؤسسات وإدارات وهذا ما خلق نظام التسيير المركزي الذي فاقم من معاناة المواطنين فالولاة معيّنون من الأعلى ولهم الكلمة الأخيرة في تسيير ولاياتهم والأمر نفسه بالنسبة لرؤساء الدوائر مما يجعل رؤساء البلديات مكتوفي الأيدي لا يسيّرون في غالب الأحيان سوى القمامة وأرصفة الشوارع والشيء نفسه بالنسبة للشركات العمومية والجامعات وغيرها من المؤسسات التابعة للدولة. علينا أيضا الانتقال من النظام الرئاسي بغرفتين إلى نظام برلماني بغرفة واحدة للحدّ من هدر المال العام وضمان تسيير ديمقراطي حقيقي وفعّال بحيث لا يكون لرئيس الجمهورية سوى الجانب البروتوكولي لا أكثر فنحن قد رأينا مصير الجزائر عندما حصرت القرارات المصيرية في يد شخص واحد في حين لو وضعت السلطة التنفيذية في يد أعضاء البرلمان الذين يختارون من الأغلبية رئيسا للحكومة سيجعلها دوما أمام ميزان الشعب الذي سيؤيد عملها ويزكيها لعهدات أخرى أو أن يزيحها من على هرم السلطة عبر الصندوق. ويجب الإشارة هنا إلى أن نظام التصويت المعتمد في البرلمان يجب أن يتحوّل إلى تصويت سرّي لتفادي أيّ ضغط فالمنتخب يعمل لصالح الشعب لا لصالح جهة معينة. إن الجمهورية الثانية وفق نظري تستدعي بالضرورة القضاء على التسيير المركزي وتعيين الولاة ولا يتمّ ذلك إلا عن طريق إعادة تقسيم الجزائر إلى مقاطعات كبرى ينتخب أفرادها من يتولى رئاستها من سكان المقاطعة لأنهم أدرى بمشاكلها وإمكانياتها فالمقاطعات ذات الطابع الزراعي تختلف عن المقاطعات ذات الطابع الصناعي مثلما تختلف فيها الآليات المعتمدة لخلق اقتصاد بديل يسمح للمقاطعات بعدم الاتكال على ريع البترول في التسيير إذ من غير المعقول مثلا أن ضرائب ولاية بجاية تجمع في سطيف ويتصرف فيها المسؤولون المتواجدون في العاصمة على نحو هواهم أو أن يقوم مدير مؤسسة عمومية بإفلاس الشركة التي عيّن فيها ليحوّل من قبل مسؤوليه إلى إدارة شركة أخرى من دون أدنى محاسبة. ولتحقيق التوازن بين السلطات يجب سحب صلاحية التعيين من يد السلطة التنفيذية على السلطة القضائية الأمر الذي يضمن استقلالية العدالة وعدم ربطها بوزارتها إلا فيما يخص الجوانب الإدارية فالتحويلات والأمور التأديبية والفصل والتعيينات يجب أن تتم من قبل مجلس قضاء مستقل ومنتخب والأمر نفسه بالنسبة للمجلس الدستوري الذي يجب أن يتحول إلى محكمة دستورية مستقلة عن باقي السلطات وتتمتع بالحصانة بحيث تبدي رأيها برفض أو قبول التشريعات التي تعرض عليها وأحيانا أخرى تحاكم المسؤولين من السلطة التنفيذية والتشريعية الذين يثبت عليهم محاولة تعديهم على مواد الدستور. وللحفاظ على الطابع الجمهوري الديمقراطي للنظام يجب تخصيص مواد دستورية بصيغة صريحة تنص على رفض استعمال الدين والهوية والجهوية في النشاط السياسي لأن الخطر الأكبر على الديمقراطية يأتي من الحرية التي تمنحها للأفراد. من الواجب أيضا تنظيم النشاط السياسي ويستدعي هذا الأمر حلّ جميع الأحزاب دون استثناء ودعوتها لإقامة مؤتمراتها التأسيسية لفرز الأحزاب الحقيقية عن تلك التي لا يتعدى أعضاؤها أفراد الأسرة الواحدة. ولا يجب تجديد نشاط حزب الأفلان لكونه حزب جميع الجزائريين ولا يجب مواصلة تلطيخ سمعته أكثر وعلى السلطة استعادة جميع مقراته وممتلكاته وتوزيعها على وزارتي الشباب والثقافة لتحويلها إلى مكتبات أو دور ثقافة كما يحضر نشاط حزب الأرندي لارتباط تواجده بالتزوير والفساد. وينادي الشعب أيضا بإقامة جمهورية مدنية بحيث تكون مهام الجيش محصورة في حماية أمن الوطن وذلك بحماية حدودها من أي اعتداء. وبالتالي يجب إبعاد الجيش عن أي عمل سياسي وفق ما هو معمول به في جميع البلدان الديمقراطية لأن انحياز الجيش إلى طرف سياسي دون آخر سيخلق انشقاقا يؤثر لا محالة على استقرار الوطن. لقد ورثنا عن الاستعمار الفرنسي الفروع التي ينقسم إليها الجيش ونحن لسنا مضطرين للتمسك بها فالمدنية التي نستهدفها تستدعي إبقاء الجيش بعيدا عن الحياة اليومية للمواطنين وترك المؤسسات المدنية هي التي تتولى تنظيم الحياة العامة وبالتالي أرى أنه من الضروري إلحاق جهاز الدرك بوزارة الداخلية ودمج مختلف عناصره بسلك الشرطة التي اكتسبت احترافية كبيرة في أداء عملها الأمر الذي سيسمح بالحفاظ على أمن الأفراد على النحو المعمول به في معظم دول العالم. أثناء صياغة الدستور الجديد يجب مراعاة عدم وضع فوارق جهوية في مواده كالتباين الموجود بين اللغتين العربية والأمازيغية في دستور 2016 في مادته 212 التي تشير بأنه لا يمكن إجراء أي تعديل دستوري يمس اللغة العربية كلغة وطنية ورسمية مستثنيا اللغة الأمازيغية من ذلك وكأنها ليست لغة وطنية ورسمية. إن الهدف في الأخير هو بناء جمهورية مدنية ديمقراطية موحّدة أساسها العدالة الاجتماعية أين تضمن لأفرادها حرية التعبير وتساوي الفرص بغض النظر عن دينهم أو جنسهم أو لغتهم أو منطقتهم بحيث يطبق القانون على الجميع دون استثناء من أبسط مواطن إلى أعلى مسؤول على هرم السلطة.