بقلم: لطفي العبيدي* الأداء السياسي لا يأتي من فراغ ومثله الفعل الاستراتيجي فهناك مرجع نظري يتم الاحتكام إليه في أغلب الأحيان. ومن هنا بدت الحاجة الماسة إلى إجراء تغيير نوعي في أساليب الإدارة بالنسبة للدول الكبرى المؤثرة في السياسة الدولية التي تمتلك بنى إمبراطورية وتحافظ على علاقة متينة وغير متوترة بين السياسي والثقافي. وهي مسارات ثابتة تحظى فيها مراكز الدراسات الفكرية بدور مهم في صناعة السياسة الأمريكية أو الأوروبية وتعد المرجعية التي يُعتمَد عليها. على نحو يفسر التحول السريع لدول أوروبا الشرقية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي من دول اقتصاديات التخطيط إلى اقتصاديات حرية السوق وسلوك المجتمع الاستهلاكي ويفسر أيضا تحول السياسة الأمريكية من استراتيجية القوة الخشنة إلى القوة الناعمة. فبعد أن كانت الآلية العسكرية الصلبة هي العنوان الأبرز في استراتيجية المحافظون الجدد في أمريكا خلال العقدين الماضيين تغير الأداء الاستراتيجي لواشنطن بفعل التراجع السياسي والعسكري والاقتصادي. وبدا واضحا انتهاج السياسة الناعمة إيهاما باشراك المجتمع الدولي في السياسة الدولية وهي مراجعات ضرورية في مرحلة حرجة من تاريخ الفشل وتراجع الامبراطورية استندت إلى رؤى مفكرين في مراكز دراسات معروفة. وليس مستغربا أن تؤدي خيارات القوة للمحافظين الجدد منذ عهد بوش الابن إلى اندحار شرطي العالم ناهيك من أن الحرب على العراق كانت عنوان سقوط الشرعية الدولية والعبث بالمواثيق الأممية. وكشفت تلك الحرب عن حقيقة الادعاء باحترام حقوق الإنسان وزيف الديمقراطية الأمريكية ومبدأ الحرية الذي تتبناه. ويبدو أن العقل السياسي الأمريكي مسكون بهاجس الهرمية الدولية ويُبْقِي خيار القوة مطروحا في ظل التحولات العالمية الجارية التي تنبئ ملامحها الكبرى بتراجع النفوذ الأمريكي لصالح الصين وقوى أخرى صاعدة ترغب في إعادة التوازن للنظام الدولي وكبح جماح الأحادية القطبية. وتتناسى الولاياتالمتحدة أن ارتباك اقتصادها وتراجعه حدث نتيجة التوسع خارج الحدود وشن الحروب المتتالية بتعلة الاستباق والاحتواء كاستراتيجية مدفوعة بآراء المحافظين. وبالمحصلة النهائية مثلت الحرب على العراق وأفغانستان البداية الفعلية لتركيز الإرهاب في الشرق الأوسط تحت مسمى الجهاد العالمي. وبدل الديمقراطية جاءت الفوضى بجميع أشكالها لتنخر النسيج القومي الاجتماعي لدول المنطقة وتغذي الطائفية والتناحر المذهبي الذي كان خامدا لوجود النظام السياسي على رأس الدولة الوطنية. ومن الطبيعي أن تتخبط الولاياتالمتحدة في مجدها الذاتي المغرور على إيقاع بداية القرن الحادي والعشرين الذي رأى فيه مناصروها من أمثال زبيغنيو بريجنسكي أنه لا مثيل لقوة أمريكا بالنسبة إلى صحة الاقتصاد العالمي والتأثير الإبداعي لديناميكيتها التكنولوجية ومن حيث الجاذبية العالمية للثقافة المحض أمريكية المتعددة الأوجه. وقد وفرت هذه العناصر كلها لأمريكا نفوذا سياسيا عالميا لا نظير له وأصبحت في كافة الأحوال ضابط الإيقاع العالمي ولا منافس لها على المدى المنظور . واليوم تواجه واشنطن بيئة استراتيجية صعبة بمعطيات جديدة مليئة بالغموض والتعقيد والهواجس. وعولمة السياسة العالمية هي على المحك زمن كورونا واضطراب الاقتصاد العالمي وارتباك مرتكزاته الليبرالية التي تعطي السوق الفردية امتيازا فوق جميع أشكال التنظيم الاجتماعي للدولة الوطنية وعلى نطاق عالمي غير مقيد ينزع نحو الاستهلاك. فالقوة الاقتصادية هي الرافد الجوهري الذي يجعل أي دولة تؤمن موقعها في السياسة الدولية ويكون لها حضور مؤثر في دينامية القضايا على مستوى العالم. وقد زادت قيمة المكون المعرفي والتكنولوجي عن غيره وفعلا يعد الاقتصاد بشكل واضح أكثر أهمية من كونه مقياسا للقوة العظمى فهو مركز القوة الأهم والشأن الحقيقي للعالم في المستقبل سيتركز على القضايا الاقتصادية في واقع يعتمد فيه الاقتصاد الأمريكي أساسا على القطاع الخاص بنسبة تقارب 60 وبنسبة لا تتعدى 25 للحكومة الفيدرالية والباقي للسلطات المحلية في كل ولاية أمريكية. هل الولاياتالمتحدةالأمريكية أنموذج نقيض للديكتاتورية والاستبداد والعنصرية بما تدعيه من تمثيل للديمقراطية وحقوق الإنسان؟ لا يبدو الأمر كذلك فالدفاع عن حقوق الإنسان يحتاج إلى تهذيب الأخلاق الدولية ولا يمكن لأمريكا أن تدعي القيم الإنسانية وقد منعت الدواء عن العراق ذات يوم فمات نتيجة ذلك أكثر من مليون طفل عراقي. ومن يستميت في منع شركات الأدوية الأمريكية والسويسرية وغيرها من تصدير الدواء ويقتل الأطفال والشيوخ لا يمكن أن يتحدث عن الأخلاق الإنسانية والضمير الحي. وإن حاول تسويق نجاعة الأنموذج الغربي الرأسمالي بالاعتماد المتواصل على وسائل التأثير الإعلامية والفكرية لإقناع الشعوب وإسقاط الأنظمة وهو أحد الخيارات الأمريكية تجاه إيران وكوريا الشمالية في السنوات الأخيرة. وبواسطة بضاعتها الإعلامية المسوقة بشكل ناعم تجاه الدول النامية و المارقة استطاعت الولاياتالمتحدة أن تُقولب الاتجاهات والأنماط السلوكية والقيم الاجتماعية بما تطرحه إذ كانت وسائل الإعلام ولا تزال تمارس دورها في ما سماه توفلر حقن الجماهير بالخيالات والصور الموجهة التي تخدم الهدف السياسي الكوني لعملية العولمة التي تتبناها. الوسيلة الأسرع في تحقيق الغايات هي القوة العسكرية والولاياتالمتحدة استخدمتها لعقود غير عابئة بالمرجعيات فوترت بذلك مناخ العلاقات الدولية. ويبدو أن دعاة الحرب وتلامذة المدارس السياسية الواقعية يتمسكون بقناعات لا تعترف بتطبيق المبادئ الأخلاقية في التعامل الدولي لأنها تعتبر أن الصراع والتنافس في العلاقات الدولية قائمان على القوة والمصلحة للدولة القومية. وكأن التناقض الجوهري الذي أشار إليه توماس هوبز بين المجتمع الدولي والمجتمع الداخلي للدولة في القرن السابع عشر مازال صالحا للاستخدام في ضوء العلاقات بين الدول التي ترتكز على القوة وليس على علاقات حق أو عدل فهي تخضع للعبة المصالح الوطنية وإن كان المجتمع الوطني كاملا منظما والمجتمع الدولي فوضيا ومجزءاً. ويتعين على الولاياتالمتحدةوالصين في المقام الأول من الأهمية أن تتجنبا تنمية المخاوف المبالغ فيها في ما يتصل بقدرات كل من الجانبين ونياتهما. والواقع أن توقع الصراع قد يؤدي في حد ذاته إلى الصراع حسب جوزيف ناي والبلدان يستطيعان تحقيق قدر عظيم من المصلحة الذاتية والعامة من خلال التعاون في ما بينهما وإن وُجِدت المصالح فإن التنافس الاقتصادي اليوم هو نفسه مع الحليف الأوروبي مع الفرق الأيديولوجي. وفي غياب الحكمة السياسية على مستوى عالمي تفشل الحضارة في غرس الرقابة الذاتية على أوامر السلطة وهذا اليتم السياسي يهدد بقاء البشرية في وجود الأسلحة النووية والإنذار بكبسة زرْ. ومن استغنى بعقله زلْ ومن أعجب برأيه ضلّ.