محمد مصطفى حابس: دافوس/ سويسرا أسدلت في مدينة دافوس السويسرية، فعاليات الدورة ال48 للمنتدى الاقتصادي العالمي ستارها مساء الجمعة، بحصيلة متباينة حول نتائج أعمالها بعد 400 ندوة، ناقشت على مدى أربعة أيام مواضيع تتعلق بشعار الدورة "التعايش في عالم متصدع". وقد شارك في الدورة كبار زعماء العالم، تتصدرهم المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل، والرئيس الأمريكي ترامب، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس وزراء كندا جوستين ترودو، ورئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي، ومهندس السياسة الاقتصادية الصينية ليو هى، وبعض قادة الجنوب والشرق الأوسط. وأجمع المشاركون على أن "العولمة لم تكن عادلة في توزيع مكاسبها بين الجميع"، ولكن سبل تصحيح هذا المسار كانت مختلفة وفق التصريحات التي أدلى بها كبار المتحدثين، سواء من الساسة أو صناع القرارات الاقتصاديين أو المفكرين. وخلص المشاركون إلى أن ترميم العالم المتصدع يحتاج إلى "التعاون المكثف من أجل عولمة رحيمة يتساوى الجميع في الاستفادة من مكاسبها"، وأن التهاون في حل الصراعات الجيو- سياسية، يلقي بظلاله على الجميع بلا استثناء، بل ويمهد الطريق لصراعات أعمق وأوسع يكون علاجها مستعصيا. وأجمع المشاركون كذلك على أن تعدد الأقطاب في العالم لا يعني بالضرورة استقطابا وتناحرا، بل إنها أفضل الفرص للتعاون المشترك، فقطب واحد من تلك الأقطاب لا يستطيع وحده أن يحل كل المشاكل، كما لا يستطيع أن يعيش في عزلة عن الآخرين، الأمر الذي سمحت به مثل هكذا منتديات، والتي تحضرها دول وحكومات وأيضا حكومات ظل أو الدولة الموازية، كما تعرفه العلوم السياسية.
* منتدى "دافوس" الفكرة والأهداف يعدّ منتدى "دافوس الاقتصادي" من أنجح المنتديات في العالم التي تستقطب زعماء المال والساسة والأعمال، علما أن المنتدى غير تابع رسميا لدولة بعينها، بل هو منظمة دولية غير ربحية مستقلة، منوط بها العمل على تطوير العالم من خلال تشجيع الأعمال والسياسات والنواحي العلمية وكل القادة المجتمعين، وهو أيضا منصة عالمية لمناقشة الأجندات الإقليمية والصناعية. أسس منتدى "دافوس" بسويسرا، رجل الأعمال كلاوس شواب الألماني -السويسري عام 1971، في كولوني بجنيف في سويسرا. ويضم المنتدى النخبة العالمية من رجال السياسة والمال والاقتصاد، الذين يتجاوز عددهم 2500 مشارك، ويمثلون 100 دولة حول العالم، كما تضم قائمة المشاركين كبار رجال الأعمال والشخصيات العامة مثل رؤساء الدول والحكومات والوزراء والسفراء وكبار المسؤولين في المنظمات الدولية، إضافة إلى مشاركين من المجتمع المدني ووسائل الإعلام والمؤسسات الأكاديمية ومراكز الأبحاث والنقابات، وزعماء دينيين من مختلف الأديان، طبعا بغربلة غير بريئة ومقصودة. يناقش المنتدى كل سنة موضوع أو مواضيع تهم العالم من القضايا الملحة التي يواجهها العالم بما في ذلك قضايا الصحة والبيئة وأطروحات جديدة ومستحدثة التي قد يقترحها كبار زعماء العالم، بحسب الوضع والسياق الدولي الذي تفرضه بعض مصالح "كبار القوم" كالأمريكان وبعض قوى الضغط. إذ شكل هذه السنة، حضور وخطاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، النقطة الأبرز في دورة هذا العام، والذي ترقبته دوائر صناعة القرار السياسي والاقتصادي بشغف كبير لمعرفة ما وراء شعار (أمريكا أولا)، حيث حاول الرئيس الأمريكي توصيل رسالة متزنة نوعا ما، مفادها أن "أمريكا أولا لا يعني أمريكا وحدها". وفي هذه الجزئية تحديدا توقف العديد من الكتاب والساسة في منتدى دافوس، متسائلين لأول مرة، هل تراجع ترامب عن سياسته الاقصائية، أم ذلك لا يعدو كونه مراوغة وتصحيح لمسارعابر في ظرف صعب وفي محفل دولي، عملا بقول المثل" إذَا كُنْتَ فِي قَوْمٍ فَاحْلِبْ في إنَائِهِمْ !!".
* مفهوم "القوة" و"القلق على مستقبل المكانة الأمريكية في بنية النظام الدولي" إذ لاحظ أصحاب الاختصاص، قبل وأثناء حكم ترامب، أن السمة الأكثر بروزًا في أدبيات العلاقات الدولية الأمريكية خلال العقود الثلاثة الماضية تجلي "القلق على مستقبل المكانة الأمريكية في بنية النظام الدولي". وبمقدار ما عزّز سقوط الاتحاد السوفيتي من نزعة الزهو الأمريكي كما تبدت في "نهاية التاريخ" لفوكوياما، فإنه أيقظ قلقًا كامنًا على مستقبل الولاياتالمتحدة كان قد قرع بول كيندي أجراسه الأولى في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، وقبل الإعلان الرسمي عن سقوط الاتحاد السوفيتي ببضع سنين.. وإذا كان الاتجاه الغالب- في المدة الأخيرة – على الأدبيات الأمريكية ذا نزعة تشاؤمية توحي باحتمال التراجع الأمريكي مع تباين في إيقاع هذا التسارع من مفكر لآخر ومن محلل لآخر، خاصة بمجيء الرئيس الحالي ترامب، فإن المنظّر الأمريكي جوزيف ناي، صاحب كتاب "مستقبل القوة" يقف في الطرف المقابل متشككًا في صحة النزعة التشاؤمية تلك، ويسعى لنزع صفة الحتمية عن التراجع الأمريكي، لكنه يشترط لذلك إعادة النظر في مفهوم "القوة" بما يتناسب والسياق التطوري لبنية المجتمع الدولي، نتيجة "للثقافة السياسية والمؤسسات السياسية الأمريكية"، كما يقول، لكن مساهمته الأبرز هي في النقد الشديد للنظرية الواقعية، والدعوة لفهم جديد للقوة من ناحيتين: أنماط القوة (القوة الاقتصادية والعسكرية)، وتوزع القوة وانتقالها (وهو الجزء الثاني من كتابه)، ويتناول فيه نمطين من القوة، هما القوة الناعمة والقوة الكَيِّسَة التي تجمع بين القوة الخشنة والناعمة، ليخلص في نهاية الدراسة لمناقشة موضوع "التراجع الأمريكي" واحتمالاته. ويميز المفكر"ناي" بين القوة الناعمة والقوة الكيسة، إذ تعني الأولى مجموع أدوات "الإقناع والجذب"، والتي تتم من خلال السمعة الدولية، السلطة المعنوية والأخلاقية، الوزن الدبلوماسي، القدرة الإقناعية، الجاذبية الثقافية، المصداقية الاستراتيجية والشرعية.
* من أدوات القوة الناعمة.. 46 رئيس حكومة في العالم من خريجي الجامعات الأمريكية بينما تمثل الثانية القوة الناتجة عن الجمع بين أدوات القوة الناعمة وأدوات القوة الخشنة لبناء استراتيجية تتناسب مع تغير الظروف والسياقات، يقدم "جوزيف ناي" نماذج للقوة الناعمة لتوضيح فكرته فيشير إلى أن هناك حاليًا 46 رئيس حكومة في العالم من خريجي الجامعات الأمريكية، وهناك حوالي 750 ألف طالب أجنبي يأتون للولايات المتحدة كل عام، و بالتالي تتحقق- في نظره- القوة الناعمة بطرق مباشرة ب (الإقناع والدبلوماسية والكاريزما للقيادات.. إلخ)، أو غير مباشرة ب (خلق البيئة المساعدة على الإقناع والجذب). ويرى "جوزيف ناي" أن جدوى القوة الناعمة مرهون بالمصداقية في الإعلام، لاسيما في ظل كثرة وتنوع هذه الوسائل وتنافسها المحموم بشكل يفرض على المتلقي البحث عن الأكثر مصداقية، وكلما كان عهد المتلقي بمصداقية الأداة الإعلامية أطول كان ذلك في مصلحة القوة الناعمة. ويتساءل "جوزيف ناي" عن كيفية توظيف القوة الخشنة لتتحول إلى "قوة ناعمة"، ويرى أن ذلك ممكن من خلال: – الحرب ولكن باستخدام سياق شرعي لهذه الحرب. – الدبلوماسية القهرية، والتي تتمثل في التهديد باستخدام القوة. – تقديم الحماية للحلفاء "ولآخرين" (لاتفيا، اليابان، السعودية.. إلخ). – المشاركة في علميات حفظ السلام. التدريب والمساعدات الإنسانية في الكوارث ومواجهة القرصنة. ويرى أن القوة العسكرية سيبقى لها دورها في القرن الحادي والعشرين، ولكن "بجدوى أقل" مما كانت عليه في القرون الماضية. * فهل يفهم الدرس.. حكامنا الذين يتسارعون للمنتديات الدولية قصد التسلح المفرط تتمثل نهاية الدراسة في فصل أسماه "جوزيف ناي" ب"القوة الكيِّسة" أو"القوة الذكية"، يحاول فيه أن يقدم تصورًا استراتيجيًا لتوظيف القوة الناعمة والخشنة، فالمشكلة في القرن الحادي والعشرين من وجهة نظره ليست هي "تعظيم القوة أو الحفاظ على الهيمنة، بل إيجاد سبل دمج القوة الخشنة والقوة الناعمة، ويرى أن تحقيق ذلك يستوجب: – وضوح الأهداف والعمل على دمج القيم والمصالح. – تقييم دقيق للموارد المتاحة ومدى تغير هذه الموارد مع تغير البيئة الدولية. – تحديد الأفضليات في الأهداف ومدى شرعيتها. – اختيار أشكال القوة التي يمكن اللجوء لها طبقًا للوضع القائم. – تقييم دقيق لاحتمالات النجاح. فهل يفهم الدرس حكامنا العرب الذين يتسارعون للمنتديات الدولية، كدافوس وغيرها للتسلح المفرط لقتل بعضهم البعض، ويكفوا عن اللهث وراء العم سام وسماسرة الغرب، ولو بتخريب بيوتهم وتفقير شعوبهم المنهكة، يصدق فيهم قوله تعالى {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ}.. {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.