لن نكشف سرا، إن قلنا أن الكثير من مصالح الولادات عبر مستشفياتنا تشهد اكتظاظا كبيرا، نتيجة لقوة الإقبال، لاسيما المتواجدة بالمستشفيات الكبرى، كمستشفى مصطفى باشا الجامعي مثلا، وعليه فان وجود عدة سيدات حوامل أو على وشك الولادة في غرفة واحدة، تتقاسم ثلاث وأربع منهن سريرا، قد لا يتسع لسيدة واحدة في الحالات العادية، هو أمر طبيعي، بل وأضحى مألوفا لدرجة انه لم يعد يثير في النفس الاستغراب أو الدهشة، ولذلك فهنالك الجديد دائما، بهذه المصالح الحيوية، الذي يجعلها واحدة من أكثر المصالح الطبية إثارة للجدل عبر عدد من مستشفياتنا سواء بالعاصمة أو خارجها. قبلة الجزائريين الرئيسية يستقطب مستشفى مصطفى باشا الجامعي مثلما هو معلوم، المئات من المرضى يوميا، من داخل وخارج العاصمة، حتى من ولايات أقصى الجنوب أحيانا، لسبب واضح ومعروف أيضا، هو نقص الإمكانيات والمراكز الطبية، وكذا الأطباء والمتخصصين، ما يجعل حياة هؤلاء المرضى على المحك، ويجبرهم على التوجه إلى اكبر وأقدم مستشفى بالجزائر، المستشفى الجامعي مصطفى باشا، طلبا للعلاج والتكفل الصحي، وذلك عبر مختلف المصالح الطبية والجراحية لمختلف التخصصات، وهو نفس الأمر الذي يقاس على مصلحة الولادات، التي تعد وجهة للسيدات الحوامل من ولايات بعيدة، خصوصا بالنسبة للحالات المعقدة، والولادات العسيرة، حيث تستقبل ذات المصلحة حسب إحصائيات سابقة حوالي 30 ولادة يوميا خلال فترة الصيف، ناهيك عن 15 ولادة بالعملية القيصرية في اليوم، إضافة إلى الحوامل اللواتي يتم تحوليهن من العيادات الخاصة والقادمات من منطق خارج العاصمة، ولعل كل هذا يفسر نوعا ما الاكتظاظ الرهيب وحالة الضغط التي تعيشها المصلحة، وتلقي بظلها على المريضات وأهاليهن، وعلى الطاقم الطبي والإداري، وكل ما يدور في مدار مصلحة الولادة لمستشفى مصطفى باشا الجامعي. الأرضية.. لمن استطاعت إليها سبيلا نعم لن يكون العنوان اغرب من الواقع، فقد صادف وجودنا بالمصلحة المذكورة، موعد الزيارات المسائية، التي تنطلق من الواحدة زوالا إلى الساعة الثالثة، وبالصعود إلى الطابق الأول حيث قاعة الولادة الرئيسية ثم قاعات الولادة الأخرى، يبدأ مسلسل الغرائب والأحداث المثيرة، البداية كانت من قاعة الولادة نفسها، حيث تفاجأنا بعشرات المواطنين من عائلات السيدات الحوامل، ينتظرن أمام بوابة مغلقة، بها نافذة صغيرة، هي كل ما يربط الحامل بمحيطها الخارجي حينها، إلى غاية وضعها مولودها ومنحها التسريح للخروج من هناك، إما إلى إحدى القاعات الأخرى، وهو الطبيعي والمفروض أن يحدث، وإما إلى البيت مباشرة، في حال عدم وجود مكان شاغر لاستقبالها. أول ما يلفت الانتباه هو الاستياء والسخط والتذمر الكبير الذي كان عليه أهالي المريضات، فعدم وجود أماكن شاغرة، دفع بإدارة المستشفى إلى وضع الحوامل اللواتي لا زال موعد ولادتهن لم يحن بعد في القاعة الخاصة بالولادة نفسها، وقد تسللنا إلى داخل القاعة، بدعوى مساعدة إحدى السيدات على حمل حقائبها لأنها كانت مغادِرة بعد أن انتهى كابوس الليلة التي قضتها هناك، لنجد 16 سيدة، بعضن وضعن مواليدهن وينتظرن مكانا شاغرا في القاعات المجاورة للخروج، وبعضهن لا زلن ينتظرن الوضع، ولنا أن نتخيل 16 سيدة، يتقاسمن 3 أسرة فقط لا غير، أما البقية فافترشن الأرض، وحتى الأرضية لم تكن من نصيبهن جميعا، فاثنتان منهن حصلن على كرسي، كان عليهن الجلوس فيه حتى وان انتظرن يوما أو يومين قبل موعد ولادتهن، مع كل ما يسببه ذلك لهن من متاعب وآلام على آلامهن، وبدت السيدات مستاءات للغاية من هذا الوضع، واغلبهن قلن إنهن لا يردن شيئا غير وضع مواليدهن والعودة إلى منازلهن وعدم العودة من جديد مطلقا، بعض السيدات اللواتي كن على الأرض رفقة مواليدهن، أكدن أنهن لم ينمن الليلة كلها، بعد وضعن، نظرا لانتشار الصراصير التي غزت حتى الأسرة المخصصة للمواليد، ما حتم على إحداهن، البقاء مستيقظة طيلة الليل، وهي التي كانت قد ولدت في صبيحة نفس اليوم، ضامة وليدها إلى صدرها، خوفا عليه من الحشرات، ناهيك عن التيارات الهوائية القوية التي كانت تضرب القاعة، وبرودة الأرضية، يضاف إلى ذلك ضعف تغطية شبكة الهاتف النقال داخل القاعة، الأمر الذي حرم البعض من الاتصال بذويهن، مع عدم وجود إمكانية لتسخين الأكل، ولا المشروبات الساخنة التي تحتاج إليهما المرأة النفساء أو التي هي على وشك الوضع، وباختصار شديد كان رد إحدى السيدات "ما شفتي والو"، تعبيرا على جزء قليل مما يعايشنه حقا بتلك القاعة. سجينات أم حوامل ونوافس؟ ولأن تسللنا إلى القاعة جلب إلينا بعض نظرات الارتياب والشك، فقد خرجنا مسرعين، خاصة وأنها القاعة المتواجدة بجناح العمليات الذي لا يدخله إلا الأطباء، فقد خرجنا مسرعين، للوقوف أيضا على معاناة من يقفون بضفته الأخرى، ويتعلق الأمر هنا بأهالي المريضات الذين يعرفون إن كانت مريضاتهم متواجدات بالقاعة المذكورة من خلال قائمة معلقة على البوابة، التي بها نافذة صغيرة، وعلى أهالي المرضى استفسار الطبيبة أو الممرضة الموجودة بها على المريضة، حيث تقوم بمناداتها، لتخرج المريضة إلى زوجها أو عائلتها، تتحدث إليهم من تلك النافذة الصغيرة، وتستلم منهم ما جلبوه لها من ملابس أو أفرشة أو أكل، تحت نظرات القابلة أو الممرضة التي تتخذ مكان حارس تلك البوابة، وتحدد الوقت المناسب لانتهاء الزيارة، وتطالب المريضة بالعودة إلى مكانها، ما حرم كثيرا من الآباء من رؤية مواليدهم طيلة يوم أو يومين من الوضع، ومن الاطمئنان على صحة زوجاتهم، لعدم وجود إمكانية لذلك بسبب صغر النافذة، حيث يخيل للبعض أنهم يقومون ب"بالوار" أي زيارة إلى السجن، وليس إلى مستشفى، ما خلق نوعا من الاصطدام بين أهالي المريضات والعاملين بالقاعة المذكورة، الذين كانوا يؤكدون أنها قاعة عمليات يستحيل الدخول إليها ولا الخروج منها، وأكثر ما كان يوتر ويكهرب الأمور بين أهالي المريضات والعاملات بالقاعة، هو امتناع بعضهن عن مناداة السيدات للخروج إلى أهاليهن، وتحججهن بأنهن غير متواجدات، وهو ما حدث مع عائلة جاءت لرؤية ابنتها، فأبلغتها الممرضة أنها غير موجودة قبل أن تخرج تلك الأخيرة بالصدفة، لتجد عائلتها تنظر إليها من خلف تلك النافذة الصغيرة. ولأن القاعة كانت تضم عددا كبيرا من السيدات فان ذلك ساهم في رفع عدد المواطنين أمام القاعة، ما خلق حالة من الفوضى والغليان، بين المواطنين المتذمرين والمستائين والمريضات اللواتي ينتظرن الخروج من قاعة العمليات، والاستلقاء فوق سرير مريح، والطاقم الطبي المضغوط للغاية. أمهات يتكفلن بوثائق ومعاينات مواليدهن الأمر الذي يجذب الانتباه أيضا، هو إجبار الأمهات اللواتي وضعت لتوهن مواليدهن، أو وضعن قبل يوم، على حمل مواليدهن، والتوجه بهم إلى مختلف المصالح، سواء للمعاينة الطبية، أو إجراء فحص الأشعة، أو جلب الوثائق، أو غيرها من الأمور الأخرى، وهو ما لاحظناه من سيدات يمشين بصعوبة حاملات مواليدهن، مع أن حالة السيدة التي تكون قد وضعت للتو، لا تسمح لها مطلقا بحمل مولودها في الظروف العادية، نظراً للتعب والإنهاك الذي تكون عليه، فما بالنا لو أنها تكون قد قضت ليلتها على الأرض، وبلا أكل ولا شرب، وهو ما تسبب في سقوط مولود بعد ولادته مباشرة من يدي والدته التي جلست بعد أن خرجت من قاعة الولادة على كرسي، هو كل ما حصلت عليه، إلى الأرض، واسقط الأم مغشيا عليها بعده من فرط الصدمة، كونه لم يمر على ولادته إلا ساعات قليلة. ثقافة زيارة المريض الغائب الأكبر خرجنا من أستوديو قاعة العمليات، للمرور عبر القاعات الأخرى، أول ما يشد الانتباه إليها هو الاكتظاظ الكبير، ليس من طرف المريضات، وإنما من طرف أهاليهن، وهنا يطرح تساؤُل مهم للغاية، يتعلق بثقافة زيارة المريض في العقلية الجزائرية، حيث كانت كل سيدة وضعت مولودها بالقاعات التي ممرن بها، محاطا به أكثر من أربعة أشخاص، رغم أن المفترض أن الزيارة تقتصر على شخصين على الأكثر، وعلى البقية انتظار عودة النفساء إلى البيت، تجنبا للاكتظاظ وحالة الفوضى التي يخلقها الزوار، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فان فتح مجال الزيارة للجميع، جعل القاعات أشبه بسوق مفتوح، فالرجال والشبان يصولون ويجولون بحرية، سواء كانوا من أزواج المريضات أو من أقربائهن، وهو ما خلق كثيرا من الحساسية والإحراج لبعض المريضات، وجعلهن غير مرتاحات رغم حالتهن الصحية الصعبة، حيث أن كثيرات يحتجن إلى التجول في الوراق، أو المشي قبل الولادة أو بعدها، وهو ما لا يتمكن به في ظل وجود عدد كبير من الرجال الصاعدين والنازلين، وهو المعاكس كلية للعقلية الجزائرية المحافظة. ول"المعريفة" حسابات أخرى.. أما آخر ما يمكننا أن نختم بها، ما يمكن أن نطلق عليه بالمغامرة في مصلحة الولادة بمستشفى مصطفى باشا الجامعي، فهو حالة واسطة و"معريفة" حضرنا تفاصيلها كلها من بدايتها إلى نهايتها، البداية كانت بتوجه قابلة إلى إحدى العاملات بجناح القاعات، طالبة منها تحضير السرير الذي كانت قد طلبته منها سابقا، لمريضتها التي كانت في تلك الأثناء تضع مولودها، هذا رغم وجود كثيرات داخل نفس القاعة، أي قاعة العمليات ينتظرن مغادرة مريضة واحدة، للخروج إلى القاعات المخصصة لراحتهن، وقد مر على وضعهن يوم ويومان، لتجيبها الثانية أن مريضتها قد جاءت وهي بسريرها، غير أن الأولى استغربت لأنها قالت إن من تتحدث عنها على طاولة الوضع وقد خرجت من عندها للتو، ثم أطلت على المرأة التي كانت على السرير مستفسرة الثانية عنها، فأجابتها أنها اعتقدت أنها هي من تتحدث عنها، خاصة وان السيدة محل الجدل، كانت محل توصية كذلك، الأمر الذي نرفز الأولى التي قالت للثانية إن عليها أن تطلب من السيدة مغادرة السرير فورا وتركه لمريضتها، وهو الأمر الذي أجابتها أنه لا يمكنها القيام به، وعلى مريضتها الانتظار لغاية شغور سرير آخر، فهل يتعلق مشكل الاكتظاظ بالإقبال الكبير للسيدات الحوامل، واضطرار المستشفى إلى قبولهن جميعا، رغم نقص الإمكانيات والوسائل والأسرة، أم أن في الأمر حسابات أخرى أيضا؟ * بعض السيدات اللواتي كن على الأرض رفقة مواليدهن، أكدن أنهن لم ينمن الليلة كلها، بعد وضعن، نظرا لانتشار الصراصير التي غزت حتى الأسرة المخصصة للمواليد، ما حتم على إحداهن، البقاء مستيقظة طيلة الليل، وهي التي كانت قد ولدت في صبيحة نفس اليوم، ضامة وليدها إلى صدرها، خوفا عليه من الحشرات، ناهيك عن التيارات الهوائية القوية التي كانت تضرب القاعة، وبرودة الأرضية، يضاف إلى ذلك ضعف تغطية شبكة الهاتف النقال داخل القاعة، الأمر الذي حرم البعض من الاتصال بذويهن، مع عدم وجود إمكانية لتسخين الأكل، ولا المشروبات الساخنة التي تحتاج إليهما المرأة النفساء أو التي هي على وشك الوضع، وباختصار شديد كان رد إحدى السيدات "ما شفتي والو"، تعبيرا على جزء قليل مما يعايشنه حقا بتلك القاعة.