طغت الرواية الأجنبية على المشهد الأدبي في فرنسا، إذ تتصدّر كتابات الأمريكي جوناثان فرانزين والإسرائيلي ديفيد غروسمان والياباني هاروكي موراكامي قائمة الكتب الأكثر مبيعاً. وهذه إشارة إلى أن الثقافة لا حدود لها، وإلى أن ما يسمى «ثقافة وطنية» هو مجرد وهم اجترّه أهل اليسار العربي. اللافت أن غروسمان وفرانزين وموراكامي تحولوا إلى «ثالوث أدبي» في الصحافة الفرنسية، من حيث الأخبار وكتابة المقالات، ولعلّ ما يجمع بينهم هو تناول موضوع الخراب سواء في اليابان أو الولاياتالمتحدة أو إسرئيل، كأن الكتابة لا تعيش إلا على فعل الخراب أو لا تزدهر إلا كردة فعل على الألم المعشعش في ثنايا الشعوب، هذا ما تقوله الكلمات أو فصول الروايات، فقد أجمع النقاد على الإشادة برواية «الحرية» لفرانزين التي منحته ميزة نادرة بتضمينها في عدد من مجلة «التايمز». وبيع منها أكثر من مليون نسخة في الولاياتالمتحدةالأمريكية، ونشرت في فرنسا عبر دار نشر «أوليفييه». والنافل أن قلة من الكتاب تصدّروا غلاف هذه المجلة ومن أشهرهم: جون سالينغر 1961، فلاديمير نابوكوف 1969، غونتر غراس 1970، جون ابدايك 1968 و 1982، جورج اورويل 1983، توم وولف 1998، توني موريسون 1998، حتى جاء دور جوناثان فرانزين الذي ظهر على الغلاف بعد غياب هذا التقليد الصحفي الأمريكي لمدة عشر سنوات، منذ ظهور ستيفن كنغ على آخر غلاف عام 2000 . صورة الغلاف في عدد «التايم» الأخير احتلّها عنوان لافت: جوناثان فرانزين الروائي الأمريكي العظيم، الكاتب الذي يبلغ 50 عاماً ونيّف، له ست روايات، ويعتبر أحد الأدباء المنتجين، وعلى رغم أنه أصدر مذكراته في وقت مبكر، إلا أنها لاقت ترحيباً. تناول فرانزين في روايته «الحرية» تفكّك الأسرة، وهو كتب في صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية: «وإذا أنجزت كتابة «فريدوم» (الحرية) في عام واحد، بعد مراودة فكرتها نحو ثمانية أعوام أو تسعة، فهذا عائد إلى موت ديفيد فوستر والاس (انتحاراً). فموته بعث فيَّ غضباً حملني على تركيز طاقتي وكتابة هذا الكتاب على وجه السرعة. فغداة التشييع ابتدأت الكتابة، وأنجزتها بعد سنة واحدة. وكان هذا وسيلتي إلى تفادي مجابهة موته والانفعالات التي أثارها وخلفها. فما داومت على الكتابة، استطعت تفادي انفعالات موته. وهذا ما فعلته، سبعة أيام في الأسبوع». دايفيد غروسمان شبح أوري غروسمان الذي توفي في العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006 في سنّه العشرين، يطارد والده في روايته الجديدة «امرأة هاربة من الحقيقة»، التي تعتبر قصة على شكل تعويذة على رغم أنها تنتهي تقريباً عندما يسمع المؤلف الاسرائيلي نبأ وفاة ابنه، والنتيجة بوضوح رواية شديدة الندرة. ديفيد غروسمان الذي أحدث جدلاً كبيراً في الثقافة العربية عموماً واللبنانية تحديداً تماماً كمواطنه الروائي أموس عوز، في ثقافته ومواقفه شيء من الالتباس، بل من الضياع، بعد انقضاء شهر على الحرب الإسرائيلية ضد لبنان، التي بدأت في (2006/7/12)، أصاب صاروخ مضادّ للمدرّعات أطلقه مقاتلو «حزب الله»، دبّابة إسرائيلية يقودها العريف أوري غروسمان فقُتل مع بقية طاقم الدبابة. وأوري غروسمان البالغ 21 عاماً، هو ابن دايفيد غروسمان الذي صرح في لقاء مع صحيفة «لوموند» الفرنسية قبل شهر من اندلاع الحرب: «نحن نملك قوة نووية بالإضافة إلى أحدث الطائرات والدبابات لكننا... نقاتل شعباً أعزل{... مقتل أوري غروسمان كاد يكرّر مصيراً مشابهاً لمصير شخصية روائية في رواية صدرت قبل 23 عاماً وهي من تأليف غروسمان والد العريف القتيل في جنوب لبنان، ومبدع الشخصية الأدبية التي تواجه الموت في الضفة الغربية... وتحمل الإسم نفسه: أوري...! وهنا يتساءل أحد الكتاب حين يحيلنا الأدب إلى الحياة، هل المسألة أكثر من خيال أدبيّ، أم هي بالأحرى أقلّ من خيال ما دامت تعيدنا إلى واقع سياسيّ؟ يقول غروسمان في مقال نشرته «ليبراسيون» الفرنسية: أردت في روايتي الأخيرة، «امرأة تهرب من الحقيقة»، أن أكتب تاريخ أسرة في هذه المنطقة من العالم وهذه الحقبة من الزمن، وأن أشهد القارئ على أثر الحوادث والعنف في علاقات أفراد الأسرة بعضهم ببعض، وعلى دوام الحنان والرقة، على رغم المحن، في علاقاتهم. وهي مسألة دأبنا على مناقشتها زوجتي وأنا. فنحن، من جهة، أردنا تربية أولاد لا يرفعون حواجز بينهم وبين الآخرين، ويثقون بهم، ويحملونهم على بشر وآدميين وليس على اسرائيليين أو عرب. لكننا، من وجه آخر، خالجنا على الدوام شك: هل التربية على هذا النحو هي إعداد أو تأهيل مناسب لتدبير الواحد أمره وشؤونه في هذا البلد؟ فالإقامة أو العيش هنا يقتضي شروطاً متناقضة. وفي الرواية، تخاطب الشخصية الأساسية الإبن الذاهب إلى المرآة بالقول: «لا تطلق النار على أحد!». وتخاطب نفسها: «هل زرع بذرة الشك في نفسه يحول دون فعل الأمر المناسب في الوقت المواتي لدفاعه عن نفسه؟ ولدي قتل في أثناء حرب 2006. وعندما حدث هذا كانت مضت ثلاث سنوات ونصف السنة على كتابتي الرواية. وكنت لا أعرف إذا كان في وسعي استئناف العمل. وبعد انقضاء حداد الأيام السبعة، استأنفت الكتابة. فأنا لا أرى ما يسعني أن أفعل غير الكتابة لأكون في هذه الحياة. وحين تحل بك كارثة مثل هذه، تشعر بنفيك من كل ما كنت تعرفه سابقاً من غير استثناء. فلا يبدو لك شيء أليفاً بعدها. واستئناف الكتابة كان ذريعة لإنشاء مأوى لي. كنت أجلس وأكتب، وأقول مخاطباً نفسي: هل أنت أبله؟ العالم ينهار من حولك وأنت مصرّ على كتابة هذه الكلمة، هذه الجملة...». هاروكي موراكامي موراكامي الذي نعرفه جيداً في العالم العربي، إذ تُرجمت إلى العربية رواياته «كافكا على الشاطئ» و{سبوتنك الحبيبة» و{رقص» وغيرها، ما زال يحظى باهتمام عالمي وروايته 1Q84 باعت ملايين النسخ، وفيها يتتبَّع مسارات متوازية حول قصص حياة مجموعة من الشخصيات هم: أموامي ابنة أستاذ الرياضة، وقاتل محترف، والزنجي تينغو أستاذ الرياضيات. في الرواية يظهر الكاتب الياباني المعاصر العنف الطائفي والديني، والعنف ضد المرأة، وفحولة المجتمع ونوبات سوء الهضم للتاريخ الياباني المعاصر. يستدعي الروائي الياباني المأساتين اللتين هزتا اليابان عام 1995 – زلزال مدينة كوبي والهجوم بالغاز في مترو طوكيو الذي قامت به جماعة «أوم». يقول في حديث له: «ما يهمني في هذه الحكاية، هو تطلعات هؤلاء الأعضاء لتشييد إمبراطورية سفلية (تحت الأرض) انطلاقاً من سراب. وعقب «فقاعة التفكير» العائدة لكل من زلزال كوبي وهجوم جماعة «أوم»، تبخرت الطمأنينة التي كانت تخيّم على اليابان. ولم تفعل أحداث 11 سبتمبر شيئاً سوى تأكيد فقدان القاعدة التي كنا نظن أنها تحملنا بشكل قوي. وبدلاً من هذا الانطباع بالثقة حلّ الإحساس بالسديمية. أضف إلى ذلك، أنه في الوقت عينه، وجدنا أن الإنترنت اجتاح نسق الاتصالات والمعلومات. نعيش اليوم في الحضارة الرقمية، المتخمة بالمعلوماتية والرموز، وقد أصبح من الصعب أكثر فأكثر التمييز بين ما هو جيد أو سيئ. وفوق موت السرد الكبير أتى ليُضاف إليه نزع طابع الواقعية عن التقارير الاجتماعية التي أصبح من السهل أيضاً التلاعب بها». يلتفت موراكامي في عنوان رواياته الى رواية جورج أورويل، إذ إن حرف Q يلفظ «كيو{ باليابانية وهو يعني أيضاً رقم 9. أي أن العنوان يقرأ أيضاً 1984... وفي هذا يعتبر موراكامي أن الاختلاف الكبير بين روايته وبين كتاب أورويل يقع في أن الآخر كان يكتب قصة تجري أحداثها في المستقبل، بينما موراكامي أعاد اختراع أحداث ماضية تسم الحاضر. في عام 1949، كان أورويل يصف النظام التوتاليتاري. أما في أيامنا، فلم تعد هناك من أنظمة فعلية، بل نجد أوضاعاً تتطوّر من لحظة إلى أخرى، لتترابط في حركة مستمرة تتأرجح فيها نقاط الاستدلال. فالانسيابية وعدم الثبات يحملاننا. وفي مقال نشره موراكامي في مجلة «لوبوان» وتُرجم الى العربية، يذكر الروائي الياباني: «أنا من جيل تظاهر أفراده في الستينيات والسبعينيات، وكان سائق معارضتنا السياسية إرادتنا تحسين المجتمع، ولم يلبث مثالنا أن انهار وهوى، والمعارضون المتمردون تولوا وظائف في ميتسوبيشي أو باناسونيك، وصرفوا طاقتهم إلى العمل. وانقلب الجيل من المثالية إلى الواقعية والمادية، وأصابت السُّمنة اليابان فانتفخ وانفجرت الفقاعة. وفي 1Q84 تساءلت عن هذا. ومن جهة أخرى، جمعتُ شهادات أدلى بها ضحايا الهجوم بغاز الخردل الذي شنّته فرقة «أوم» في مترو الأنفاق بطوكيو، وسميته ب «أندرغراوند». ودِينَ كلُّ الذين تورطوا في الهجوم وكانوا مسؤولين عنه، وحُكموا بالإعدام، وإلى اليوم لم يعدموا فعلاً. ذهبت إلى المحكمة، ونظرت إليهم ملياً، وبدا لي أن ثمة ما تجاوزهم في بعض الأوقات. هم أناس أذكياء جداً، وفكروا في المجتمع وشؤونه تفكيراً عميقاً، وفي الروحانيات، وهم ليسوا قتلة في قرارة أنفسهم، واقتُصَّ منهم لقتلهم عدداً من الاشخاص من غير أن يقصدوا اقترافَ شر، على حسبانهم. فأين الشر وأين الخير؟ وأين الحد الفاصل بين هذا وذاك؟ هذه أوجه حول الكتاب والحياة في العالم، الكلمة تصرخ في أرض تأكلها لحظات السواد والموت والعنف والتفكّك.