الإمام الجوزي أحد كبار الفقهاء المتقدمين، ومن أفضل علماء عصره في الحديث وعلومه والفقه والتاريخ، وصار إماماً في الوعظ والخطابة والجدل والكلام، حتى سمى بواعظ الآفاق، ولقي بسبب إخلاصه في الدعوة ودفاعه عن الدين الإهانة والنفي والتشريد والسجن الانفرادي لمدة خمس سنوات وهو شيخ مسن جاوز الثمانين. ولد جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن عبيد الله بن الجوزي، وينتهي نسبه إلى أمير المؤمنين أبي بكر الصديق رضي الله عنه ب “درب حبيب” في بغداد، واختلف في تاريخ ولادته، والراجح في سنة 510 ه، والمعروف بابن الجوزي لشجرة جوز كانت في داره بواسط، ولم تكن بالبلدة شجرة جوز سواها، وقيل نسبة إلى “فرضة الجوز”، وهي مرفأ نهر البصرة، ونشأ يتيماً فقد مات أبوه وعمره ثلاثة أعوام، وترك له من الأموال الشيء الكثير، وتولت عمته تربيته لزواج أمه، ولما ظهرت عليه علامات الذكاء والنجابة دفعت به إلى طريق العلم، وبدأ تلقي دروس العلم بحفظ القرآن الكريم، والتردد على حلقات العلماء في مسجد محمد بن ناصر الحافظ، وجلس لسماع الحديث والفقه والأصول، ولزم حلقة الشيخ ابن الزغواني شيخ حنابلة العراق، وأخذ عن أبي بكر الدينوري، والفقيه أبى الحكيم النهرواني، وغيرهم من كبار علماء عصره، وصرف همه إلى الحديث وعلومه فتمكن بها حتى فاق أقرانه، وظهر نجمه وتقدم على أترابه في التفسير والتاريخ والفقه واللغة. صفاته عُرف بالذكاء وحدة الذهن وسرعة البديهة والفطنة، وسعة العلم والثقافة والهمة العالية، ودفعه طموحه واعتداده بنفسه وعلمه لأن يطلب الجلوس مكان شيخه الزغواني بعد وفاته، وكان وقتها شاباً دون العشرين، فأنكروا عليه ذلك، فاشتغل بالوعظ، وكان فناً رائجاً وبضاعة نافعة، فتفرد وتفوق على كبار وعاظ بغداد، وبلغت شهرته الآفاق وتهافت الخلفاء والوزراء والكبراء والأمراء والعلماء والأغنياء والفقراء على حضور مجالسه، وكان يحضر مجلسَه عشراتُ الألوف من الناس، وقيل إنه تاب على يديه أكثر من مئة ألف. وأجمع الذين أرّخوا له على علو كعبه في فنون ومعارف شتى، ولورعه وزهده وعبادته وتفقهه وسعة أفقه، أثنى عليه العلماء، قال عنه ابن كثير: “أحد أفراد العلماء، برز في علوم كثيرة، وانفرد بها عن غيره، وجمع المصنفات الكبار والصغار نحوا من ثلاثمئة مصنف”، وعده الإمام ابن قدامة المقدسي: “إمام أهل عصره في الوعظ، وصنّف في فنون العلم تصانيف حسنة وكان صاحب فنون”، وقال أبو عبد الله الدبيثي في تاريخه: “شيخنا جمال الدين صاحب التصانيف في فنون العلوم من التفسير والفقه والحديث والتواريخ وغير ذلك، وإليه انتهت معرفة الحديث وعلومه والوقوف على صحيحه من سقيمه”. مصنفاته ترك الإمام ابن الجوزي مصنفات شملت الكثير من العلوم والفنون، زادت على ثلاثمئة مصنف في علوم القرآن الكريم والحديث الشريف والفقه التفسير والتاريخ والحساب والفلك والطب والوعظ والتذكير والأخلاق والرقائق وبلغت أوج الشهرة والذيوع، منها “زاد المسير في التفسير”، و”المنتظم في التاريخ”، و”الموضوعات في الحديث”، و”صفوة الصفوة”، و”تلبيس إبليس”، و”صيد الخاطر في اللطائف والإشارات”، و”منهاج القاصدين”، و”ذم الهوى”، و”تاريخ بيت المقدس” وغيرها من المصنفات الفائقة، التي فُقد الكثير منها في محنه القاسية، فقد عاش حياته في الطور الأخير من الدولة العباسية، حينما سيطر الأتراك السلاجقة على الدولة ومقدراتها، وتمكن أتباع المذهب الشافعي والعقيدة الأشعرية من التحكم في الساحة العلمية لبغداد عاصمة الخلافة، والسيطرة على حلقات العلم والمدارس الفقهية ومحاريب الجوامع، وكانت تلك المكانة من قبل بيد أتباع المذهب الحنبلي والعقيدة السلفية، وأخذ الشافعية في التضييق على الحنابلة والاستطالة عليهم في المجالس والمدارس، ودخلوا معهم في مجادلات ومهاترات حامية بسبب العقائد، وشنَّعوا عليهم، ولكن الإمام ابن الجوزي تصدر مجالس العلم واستطاع أن يلفت إليه الأنظار ويستقطب الناس من كافة الإرجاء والمستويات، وأصبح حديث المنتديات والمحافل، بسبب ما عُرف عنه من الاعتداد بالنفس والنقد اللاذع الذي كان يوجهه لخصومه، وهو ما أدى إلى ارتفاع مكانة الحنابلة وإقبال الناس على شيوخ المذهب، وهو ما أغاظ أتباع باقي المذاهب خاصة الشافعية والأحناف، وأورثه عداوة وخصومة الكثيرين حتى من أصحابه الحنابلة الذين غضبوا من انتقاده للشيخ عبد القادر الجيلاني، وكان رأسَ الوعاظ في العراق. ولما استوزر الخليفة العباسي المقتفي بالله الوزير عون الدين بن هبيرة في سنة 550 ه، وكان حنبلياً سعى إلى النهوض بالدولة العباسية واستعادة هيبتها، وقرب ابن الجوزي لمجالسه واتخذه مستشاراً، وأدت إصلاحات ابن هبيرة إلى زيادة خصومه الذين قضى على فسادهم، وتمكنوا من قتله بالسم سنة 560 ه، وبموته أخذ أعداء ابن الجوزي في التربص به والكيد له والتخطيط للإيقاع به، واستغلوا تولي الخلافة الناصر لدين الله العباسي سنة 575 ه، وكان قد أعلن تشيُّعه، وعزل الوزير الحنبلي المظفر بن يونس الذي كانت تربطه صداقة عميقة بابن الجوزي، ثم سجنه، وتسلم ابن القصاب الشيعي منصب الوزارة، فأنهى حظوة ابن الجوزي، واستجاب للوشاية والمؤامرة التي دبرها صديقه الركن عبد السلام بن عبد الوهاب حفيد الشيخ عبد القادر الجيلاني، الذي أفتى ابن الجوزي بحرق كتبه ومنعها، لاعتناقه معتقد مذهب الفلاسفة، ومجونه وفسقه وشربه الخمر، كما أخذت منه مدرسة جده الشيخ عبد القادر الجيلاني وأعطيت لابن الجوزي لإدارتها، فأمر الوزير ابن القصاب بوضعه في سفينة صغيرة، ونفيه إلى مدينة واسط، وحبسه في بيت ضيق بلا أحد يخدمه وكان شيخاً مسناً قد جاوز الثمانين، ومُنع عنه الناس لمدة خمس سنوات كاملة. محنته ووفاته ومما زاد من محنته أن الذي تآمر مع الركن عبد السلام ضده هو ولده الكبير أبو القاسم علي الذي كان ماجنا فاسقاً نديم الركن في مجالس الخمر والفجور، كما قام ببيع مكتبته ونتاجه التأليفي العلمي، وأطلق سراحُه بعد توسط أم الخليفة، وعاد إلى بغداد، وأذن له الخليفة في الوعظ وحضر مجلسه بنفسه، إلا أنه - رحمه الله - توفي بعد مدة قصيرة من عودته في منتصف شهر رمضان سنة 597 ه. * ترك الإمام ابن الجوزي مصنفات شملت الكثير من العلوم والفنون، زادت على ثلاثمئة مصنف في علوم القرآن الكريم والحديث الشريف والفقه التفسير والتاريخ والحساب والفلك والطب والوعظ والتذكير والأخلاق والرقائق وبلغت أوج الشهرة والذيوع، منها “زاد المسير في التفسير”، و”المنتظم في التاريخ”، و”الموضوعات في الحديث”، و”صفوة الصفوة”، و”تلبيس إبليس”...