بيّنت الشريعة أحكام المخالفين لأصولها وفروعها، وحدّدت الأوصاف التي تُطلق عليهم، وأوضحت الأحكام التي يُتعامل بها معهم· واهتمّت الشريعة الغرّاء بهذا الجانب اهتمامًا بالغًا، وهذا الاهتمام يوجب على الأمة أن تلتزم بما بيّنته الشريعة واهتمّت به، وتحرص على التمسّك بما حدّدته من ضوابط وشروط، ويوجب عليها أيضًا تطبيقه وتفعيله في الواقع؛ لأنّ تلك الأحكام والأوصاف جزء من الشريعة، وإهماله أو إنكاره هو في الحقيقة إهمال وإنكار لجزء من الدين؛ ولهذا نصّ العلماء على أن من لم يكفّر الكافرَ فهو كافر؛ لأنّ من لم يكفّر المعيّن المقطوع بكفره أو توقّف فيه، فهو مكذّب لكلّ نصّ يدلّ على تعميم التديّن بالإسلام، وكفر من تديّن بغير دين الإسلام· ولكن الشريعة مع ذلك تشدّدت كثيرًا في تنزيل تلك الأوصاف على الأعيان وقيّدتها بقيود ثقال، وأقامت حولها سياجًا ضخمًا من الضوابط، وحذت نصوصها بتحذيرات متتابعة من التساهل أو التهاون في استعمال تلك الأوصاف وتنزيلها على المسلمين· وقد تنوّعت دلالات النصوص الشرعيّة في التحذير والتنفير من أي تهاون في تنزيل تلك الأوصاف أو في استعمالها، تارة بطريق التصريح بالتحريم، وتارة بالموازنة بينه وبين القتل، وتارة بإمكان رجوع الوصف إلى المفسِّق والمضلِّل والمكفِّر نفسه· ومن تلك النصوص التي شنّعت على التساهل في إطلاق أوصاف التفسيق والتضليل على المسلم قوله عليه الصلاة والسلام: (إنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا). (البخاري: (1739)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه. (مسلم: (6706))· من تلك النصوص: قوله عليه الصلاة والسلام: (ومن رمى مؤمنًا بكفر فهو كقتله. (البخاري: (6105). ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلاّ ارتدّت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك). (البخاري: (6045)· وهناك نصوص أخرى كلها تؤكّد على معنى واحد وهو وجوب الاحتياط الشديد في إطلاق الأوصاف على المسلم، ووجوب ابتعاد المسلم عن كل ما يؤدي إلى إمكان تجاوز الحدّ في الاعتداء على إخوانه المسلمين بما يقدح في دينهم وعلاقتهم بربهم· وحين نتأمل في تلك التحذيرات نجد أن الشريعة إنما فعلت ذلك سعيًا منها إلى أن يسود العدل والبعد عن الظلم في التعامل بين المسلمين، وحرصًا منها على سدّ كل الأبواب التي يمكن من خلالها أن تُستغلّ تلك الأوصاف وتنزل على غير من يستحقها· وقد أكّد علماء المسلمين نفس المعنى الذي أكّدته النصوص الشرعيّة، وبيّنوا أن الواجب على المسلم أن يحذر غاية الحذر من إطلاق أوصاف التضليل والتفسيق والتكفير على المسلمين، وشنّعوا شناعة كبيرة عليه، وكشفوا عن مخالفته للشريعة، وفي هذا يقول ابن عبد البر: (فالقرآن والسنة ينهيان عن تفسيق المسلم وتكفيره ببيان لا إشكال فيه، ومن جهة النظر الصحيح الذي لا مدفع له أنّ كلّ من ثبت له عقد الإسلام في وقت بإجماع من المسلمين ثم أذنب ذنبًا أو تأوّل تأويلاً، فاختلفوا بعد في خروجه من الإسلام لم يكن لاختلافهم بعد إجماعهم معنى يوجب حجة، ولا يخرج من الإسلام المتفق عليه إلاّ باتفاق آخر، أو سنة ثابتة لا معارض لها، وقد اتفق أهل السنة والجماعة وهم أهل الفقه والأثر على أن أحدًا لا يخرجه ذنبُه -وإن عظُم- من الإسلام، وخالفهم أهل البدع، فالواجب في النظر أن لا يكفر إلاّ إن اتّفق الجميع على تكفيره، أو قام على تكفيره دليل لا مدفع له من كتاب أو سنة· (التمهيد: (17/21)، وهناك تقريرات عديدة في التحذير من الإقدام على إنزال تلك الأوصاف من غير بيّنة· وقد طبّقوا ذلك على أنفسهم· انظر إلى ابن تيمية ماذا يقول: (هذا مع أني دائمًا ومن جالسني يعلم ذلك مني أني من أعظم الناس نهيًا عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلاّ إذا علم أنه قد قامت عليه الحجّة الرساليّة التي من خالفها كان كافرًا تارة وفاسقًا أخرى وعاصيًا أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها: وذلك يعمّ الخطأ في المسائل الخبريّة القوليّة والمسائل العملية)· الفتاوى: (3/229)، فها هو ذا ابن تيمية يعظّم أن يُنسب إليه أنه فسّق معيّنًا من المسلمين أو كفّره إلاّ بعد إجراءات واسعة، مع أنه كان يناقش أقوامًا وقعوا في الشرك والكفر الصريح، فلماذا فعل ذلك؟! فعله لأنه مدرك لخطورة هذا الباب ومستحضر لتحذيرات الشريعة من الإقدام والتساهل في هذه القضية· وقد ضرب علماء الحديث أروع الأمثلة في الالتزام بتلك التحذيرات الشرعيّة، فإنّا نجد لديهم احتياطًا شديدًا في التجريح للرواة من المسلمين وتخوّف بالغ وتحوّط كبير في ذلك، مع أن فعلهم مطلوب شرعًا، ومع أن نقدهم لا يصل في أحيان كثيرة إلى الحكم بالفسق والضلال فضلاً عن الكفر، وإنما هو في بيان فقدان الضبط والإتقان، ومع هذا كله تجد لديهم ذلك التخوّف العظيم· ومن أجمل تلك الصور ما قاله ابن دقيق العيد: (أعراض المسلمين حفرة من حُفَر النار، وقف على شفيرها طائفتان من الناس: المحدّثون والفقهاء)· (الاقتراح: (302)· وكان بعضُهم يبكي وهو يذكر التجريح في بعض الرواة خوفًا من أن يكون وقع في عرض أخيه المسلم خطأً· تأمّل كيف يحصل منهم ذلك وهم لم يفعلوا إلاّ عملاً مشروعًا· وهذا كله يدلّ على عظيم إدراك علماء المسلمين لخطورة التساهل والتهاون في الوقوع في أعراض المسلمين وديانتهم وعلاقتهم بربهم· ... يُتبع * من تلك النصوص: قوله عليه الصلاة والسلام: (ومن رمى مؤمنًا بكفر فهو كقتله). البخاري: (6105) ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلاّ ارتدّت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك). البخاري: (6045) * اتفق أهل السنة والجماعة وهم أهل الفقه والأثر على أن أحدًا لا يخرجه ذنبُه -وإن عظُم- من الإسلام، وخالفهم أهل البدع، فالواجب في النظر أن لا يكفر إلاّ إن اتّفق الجميع على تكفيره، أو قام على تكفيره دليل لا مدفع له من كتاب أو سنة· بقلم: سلطان بن عبد الرحمن العميري موقع "الإسلام اليوم"