صورة من الارشيف إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، وأكد فرضيّته في مواضع من كتابه، وبينّه رسول الله في أخبار متواترة عنه، واتفقت الأمة كلّها على وجوبه بلا خلاف أحد منهم. * * وهو قوام الدين، فالدين لا يبقى شامخا إلا بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن بضوابطه وشروطه، ولو طُوي بساطه وأهمل علمه وعمله، لَفَشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلاّ يوم التناد. * وقد ظهر ذلك في كثير من البلاد، ومن أهم أسباب ذلك ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاستهانة به، ومن أهم الأسباب أيضا إقدام شباب متحمّس على تغيير المنكر بلا ضوابط، فيؤدّي بحماسه وتسرّعه إلى فتن وبلايا ومحن ورزايا، يفسد معدما كان يريد الإصلاح، ويضرّ بعدما كان يريد النفع والخير، والشريعة كما هو معلوم مبنية على مصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، وبناء على ذلك، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فهي ليست من الشريعة. * ومن المعلوم أنّ المنكر إذا وقع له حالتين: * الأولى: أن يكون صادرا من الحاكم أو من الراعي. * والثانية: أن يكون صادرا من الرعية أي من المحكومين، وكلّ حالة لها أحكامها الخاصّة بها. * وقبل الحكم على أيّ فعل بأنّه منكر يجب أن تتوفر فيه بعض الشروط وهي: * أوّلا: التحقق من كونه منكراً ويكون ذلك بالعلم. * ثانيا: أن يكون المنكر موجوداً في الحال. * ثالثا: أن يكون ظاهراً من غير تجسس مالم يكن مجاهراً. * رابعا: أن يكون الإنكار في الأمور التي لا خلاف فيها، وفي هذا ذكر الإمام الغزالى رحمه الله أنه من شروط الحسبة "أن يكون كونه منكراً معلوماً بغير اجتهاد، فكل ما هو محل اجتهاد فلا حسبة فيه". * وروى أبو نعيم بسنده عن الإمام سفيان الثوري رحمه الله قوله: "إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه" * وقال الإمام النووي رحمه الله: "ثم إن العلماء إنما ينكرون ما أجمع على إنكاره، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه، لأن كل مجتهد مصيب ، أو المصيب واحد ولا نعلمه، ولم يزل الخلاف بين الصحابة والتابعين في الفروع ولا ينكر أحد على غيره وإنما ينكرون ما خالف نصاً أو إجماعاً أو قياساً جلياً". * هذا... "وإذا ارتكب السلطان منكرًا فللرعية معه ثلاث حالات: * الأولى: أن يقدر على نصحه وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر من غير أن يحصل منه ضرر أكبر من الأول، ولا منكر أعظم من الأول، ففي هذه الحالة يجب نصحه، وكيفية النصح يجب أن يكون بالموعظة الحسنة مع اللطف، لأن هذا هو مظنة الفائدة، وناصحه وآمره في هذه الحالة مجاهد سالم من الإثم، ولو لم ينفع نصحه. * الثانية: أن لا يقدر على نصحه، لأنه يبطش بمن يأمره، أو لأن نصحه يؤدي إلى حصول منكر أعظم وضرر أكبر، وفي هذه الحالة يكون الإنكار عليه بالقلوب، وكراهية منكره والسخط عليه، وهذه الحالة هي أضعف الإيمان. * الثالثة: أن يكون راضيا بالمنكر الذي يفعله السلطان ومتابعًا له عليه، وفي هذه الحالة يكون شريكه في الإثم والوزر. * وقد دل الحديث الصحيح على هذه الحالات الثلاث للرعية مع السلطان، وهو حديث أم المؤمنين أم سلمة هند بنت أبي أمية رضي الله عنها أن النبي قال: "أنه يُستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: يا رسول الله، ألا نقاتلهم؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة "... ولا يجوز الإنكار على السلطان بالخروج عليه ومقاتلته" الإنكار على ولي الأمر بالخروج عليه، فإنه يستلزم منكرًا أعظم، والنبي شرع لأمته إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، والإنكار على الملوك والولاة يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه أساس كل شر وفتنة، ولهذا كان من أصول أهل السنة لزوم الجماعة، وترك قتال الأئمة، وترك القتال في الفتنة، ولهذا أمر النبي بالصبر على جور الأئمة، ونهى عن قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، لما استأذن الصحابة رسول الله في قتالهم وقالوا: "أفلا نقاتلهم؟ وفي رواية: أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: "لا ما أقاموا الصلاة" وقال "من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر، ولا ينزعن يدًا من طاعة"، وذلك لما في الخروج عليهم من الفتن العظيمة التي تؤدي إلى سفك دماء المسلمين وانتهاك أعراضهم وحرماتهم، ونهب أموالهم، واختلال أمنهم واستقرارهم". * * بعض آداب الآمر والناهي: * ومن آداب الآمر والناهي أن ينصح أخاه في سرّ من دون فضيحة قال سليمان الخواص: "من وعظ أخاه فيما بينه وبينه فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما فضحه" وعن عبد الله ابن المبارك قال: "كان الرجل إذا رأى من أخيه ما يكره أمره في ستر، ونهاه في ستر، فيُؤجر في ستره ويُؤجر في نهيه، فأما اليوم فإذا رأى أحد من أحد ما يكره استغضب أخاه، وهتك ستره"، وعلى الآمر والناهي أن يتحلّى بالرفق والحلم لأنّ الرفق في هذه الأمور من الأسباب التي تؤدّي إلى تحقيق المبتغى يقول الحليمي رحمه الله "وينبغي أن يكون الآمر بالمعروف مميزا، يرفق في مواضع الرفق، ويعنّف في مواضع العنف، ويكلّم كلّ طبقة بما يعلم أنّه أليق بهم وأنجع فيهم، ولا يخاطب أحدا بفضل من كلام لا يحتاج إليه فينفره بذلك عن قبول موعظته، ولا يدخل عليه مدخلا يصير سببا لردّ نصيحته، وكما لا ينبغي لمن يقوم بهذا الأمر أن يعنف في موضع الرفق فكذلك لا ينبغي له أن يرفق في موضع التعنيف لئلا يستخف قدره ويقضي أمره". * والإنكار على آحاد الرعية يكون عند مباشرته للمنكر ويكون ذلك باللين والرفق والحلم، وأمّا إذا انتهى من المنكر فلا يجوز لأحد أن يتعرّض له لأجل ذلك، وإنما الواجب النصيحة فقط، حتّى ولو كان ذلك المنكر المُقترف من الكبائر الموجب للحدّ، فالحدود يختصّ بها ولي الأمر، يقول العلامة ابن نجيم في بحث التعزير: "قالوا لكل مسلم إقامته أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حال مباشرة المعصية، وأما بعد الفراغ منها أي المعصية فليس ذلك لغير الحاكم"، * ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله "وليس لأحد أن يزيل المنكر بما هو أنكر منه، مثل أن يقوم واحد من الناس يريد أن يقطع يد السارق ويجلد الشارب، ويقيم الحدود، لأنه لو فعل ذلك لأفضى إلى الهرج والفساد، لأن كل واحد يضرب غيره ويدعي أنه استحق ذلك، فهذا ينبغي أن يقتصر فيه على ولي الأمر". * والخلاصة أنّ للنهي عن المنكر عند تغييره أربع حالات يقول ابن القيم رحمه الله "فالذي يترتب على تغيير المنكر وإنكاره واحد من أمور أربعة: * أن يزول ويخلفه ضده. * أن يقلّ وإن لم يزل بجملته. * أن يخلفه ما هو مثله. * أن يخلفه ما هو شر منه. * فالدرجتان الأولتَان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة". * وقال الشيخ عبد القادر بن عبد العزيز في هذه المناسبة من مراجعاته "هناك فرق بين العلم بكفر السلطان وبين وجوب الخروج عليه، فلا يجب عند العجز أو إذا غلبت المفسدة في الخروج، خصوصا إذا كانت المفاسد جسيمة أعظم وخارجة عن المألوف في الجهاد، وقد تكررت حوادث الخروج على الحكام في بلاد المسلمين خلال العقود الماضية باسم الجهاد في سبيل الله من أجل تحكيم شريعة الإسلام في تلك البلاد، وقد أدت هذه الحوادث إلى مفاسد عظيمة على مستوى الجماعات الإسلامية وعلى مستوى البلاد التي وقعت بها هذه الأحداث والقاعدة الفقهية أن "الضرر لا يُزال بمثله" ومن باب أولى "لا يُزال بأشد منه" قال "وسواء كان ترك الحكم بالشريعة كفرًا أو كفرًا دون كفر أو معصية،.. فإننا لا نرى أن الصدام مع السلطات الحاكمة في بلاد المسلمين باسم الجهاد هو الخيار المناسب للسعي لتطبيق الشريعة". * وقال أيضا "نرى أن الصدام مع السلطات الحاكمة في بلاد المسلمين لأجل تحكيم الشريعة في مصر وما يشبهها من البلاد لا يجب في ضوء الظروف السابقة سواء كان هذا باسم الجهاد أو باسم تغيير المنكرات باليد، كل هذا لا يجوز ولا يجب، ولا يجوز التعرض لقوات هذه الحكومات (من الجيش والشرطة وقوات الأمن) بالأذى لما في ذلك من المفاسد الكثيرة، وننصح بذلك جميع المسلمين، ونرى أن الاشتغال بالدعوة الإسلامية وتقريب المسلمين من دينهم بما يؤدي إلى تقليل المفاسد الشائعة أجدى نفعًا للإسلام وللمسلمين، والذين خالفوا في ذلك ولجأوا إلى الصدام لا هم أقاموا الدين ولا أبقوا على أنفسهم وأهاليهم ولا حافظوا على بلادهم من المفاسد والخراب، وفي القاعدة الفقهية "من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه" أو "التعجل علة الحرمان" ومن عجز عن الدعوة والتغيير باللسان أنكر بقلبه، وبعض من رأى أن يصطدم بالسلطات في بلاد المسلمين وعجز عن ذلك لجأ إلى مسالك جانبية لإزعاج السلطات وذلك بضرب المدنيين أو الأجانب والسياح ببلاد المسلمين، وكل هذا غير جائز شرعا وإنما ألجأهم إلى ذلك تكليفهم أنفسهم بما لم يوجبه الله عليهم فعالجوا الخطأ بخطأ ثان". * بهذا ترى أنّ علماءنا المشهود لهم بالعلم في هذا العصر أجمعوا على عدم جواز الخروج حتّى على الحاكم الذي ظهر كفره بلا خلاف وذلك لما فيه من الضرر بالمسلمين وبالدعوة أعظم وأعظم من فتنة بقائه في الحكم، فالحكم الذي يتّفق عليه مثل هؤلاء الأئمة الكبراء والعلماء الفقهاء كالإجماع تماما، وهو الحقّ والهدى والرشاد، لأنهم أئمّة الزمان، وعلماء العصر والأوان، فإنّ علماءنا الأجلة هؤلاء هم نجوم الهدى، ورجوم العِدى، من تمسّك بغرزهم فهو الناجي، ومن ناوأهم وعاداهم فهو المظلم الداجي. * قال الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله "الخروج ليس فيه غير القتل والفساد، يَقتلون ويُقتلون، فهم يبيدون أنفسهم ويبيدون الدعوة، وهذا فيه فساد عظيم"، وصدق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال "لا يكاد يُعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلاّ وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته". * * العمليات الانتحارية: * إنّ هذه العمليات المسماة بالاستشهادية تُعد من حيث الطريقة والوسيلة المتَّبَعة من النوازل، والمسائل المحدثة، وطريقتها أن يقوم ذلك الشخص الذي يريد أن ينفّذ هذه العملية بأن يملأ حقيبته أو سيارته بالمواد المتفجّرة أو يلفّ نفسه بحزام ناسف مملوء بالمواد المتفجرة ثمّ يقتحم على العدوّ مكان تجمعهم أو يشاركهم الركوب في وسيلة نقل كبيرة أو طائرة أو قطار أو نحو ذلك، أو يتظاهر بالاستسلام لهم حتّى إذا رأى أنّ الفرصة مواتية فجّر ما يحمله من المواد المتفجّرة بنفسه وبمن حوله ممّا يِؤدّي إلى قتل وجرح وتدمير في أشخاص العدوّ وآلاته وحتما سيكون منفّذ العملية من بين القتلى. * اختلف العلماء في هذه العمليات، وذهب علماء السلفية إلى أنّ هذه الأعمال هي عمليات انتحارية سواء كانت في فلسطين أو في العراق أو غيرها من الأماكن، فهي محرّمة لذاتها لا لمكانها، وهذه بعض أقوالهم: * قال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله مجيبا: عن حكم من يُلَغّم نفسه لِيَقْتُلَ بذلك مجموعة من اليهود؟ * قال: "قد نبهنا غير مرة: أن هذا لا يصح، لأنه قتل للنفس، يسعى في حماية نفسه، وإذا شَرَعَ الجهاد جاهد مع المسلمين، فإن قُتل فالحمد لله، أما أنه يَقْتُلُ نَفْسَه يضع اللّغم في نفسه حتى يُقتل معهم غلط لا يجوز، أو يطعن نفسه معهم، ولكن يجاهد إذا شُرع الجهاد مع المسلمين، أما عمل أبناء فلسطين فهذا غلط، لا يصلح، إنما الواجب عليهم الدعوة إلى الله والتعليم والإرشاد والنصيحة من دون العمل" اه. * وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "إن ما يفعله بعض الناس من الانتحار، بحيث يحمل آلات متفجرة ويتقدم بها إلى الكفار ثم يفجرها إذا كان بينهم، فإن هذا من قتل النفس والعياذ بالله، ومن قتل نفسه فهو خالد مخلّد في نار جهنم أبد الآبدين كما جاء في الحديث لأن هذا قتل نفسه لا لمصلحة الإسلام، لأنه إذا قتل نفسه، وقتل معه عشرة أو مائة أو مائتين لم ينفع الإسلام بذلك، لم يُسْلم الناس، بخلاف قصّة الغلام فإن فيها إسلام الكثير. * أما أن يموت عشرة أو عشرين أو مائة أو مائتين من العدو فهذا لا يقتضي إسلام الناس، بل ربما يتعنت العدو أكثر ويوغر صدره هذا العمل حتى يَفتِك بالمسلمين أشد فتك، كما يوجد من صنع اليهود مع أهل فلسطين. * فإنه إذا مات أحد منهم من هذه المتفجرات، وقتل ستّة أو سبعة أخذوا من جراء ذلك ستين نفراً أو أكثر فلم يحصل بذلك نفع للمسلمين، ولا انتفاع بذلك للذين فُجرت هذه المتفجرات في صفوفهم، والذي نرى: ما يفعله بعض الناس من هذا الانتحار نرى أنه قتل للنفس بغير حق، وأنه موجب لدخول النار والعياذ بالله، وأن صاحبه ليس بشهيد..." اه. * هذه الأقوال التي نقلتها وغيرها في حكم هذه العمليات كلّها كانت تعالج الجهاد المشروع، ومع ذلك أفتى هؤلاء الأجلاء بعدم جواز تلك العمليات، فهي محرّمة لذاتها حتّى ولو كان هذا الجهاد مشروعا لا خلاف فيه، ومن باب أولى لا تجوز هذه العمليات في بلاد المسلمين، لأنّ الخروج هذا أصلا غير مشروع. * وقال أبو بصير الطرسوسي وهو من شيوخ الجماعات المسلحة وزعمائهم "ونقلوا عن الشيخ عبد القادر بن عبد العزيز أنه كان لا يرى جواز العمليات الاستشهادية لعدم عثوره على دليل نصي صريح يخرجها عن حكم الانتحار". * *