لقد كرّر ابن تيمية في مواطن من كتبه شرح طريقة أهل السنة في التّفسيق والتّضليل والتّكفير، وبيّن أنهم يحسنون الظنّ بأهل القبلة، ويتحوّطون كثيرًا في إطلاق تلك الأوصاف ولا يتسرّعون فيها، وبيّن أن أهل السنة ليسوا كغيرهم؛ فهم يخطِّئون ولكن لا يتجرّؤون على التّكفير والتّضليل إلاّ بعد احتياطات كثيرة جدًا انظر مثلاً: [منهاج السنة ( 5/251). فكما أن التّكفير والتّضليل والتّفسيق لمن يستحقه واجبٌ شرعي وهو من طريقة أهل السنة، فكذلك الاحتياط والحذر في إطلاق تلك الأوصاف واجب شرعي وهو من طريقة أهل السنة، فلا يصحّ لنا التركيز على أحدهما دون الآخر. ومما يزيد من وضوح خطورة التساهل في إطلاق أوصاف التّفسيق والتّضليل على المسلمين: ما كرّره العلماء من أن الأصل في المسلم السلامة من الفسق والضلال، وما يؤكدون من أن هذا هو الأمر قطعيٌ لا يقبل الشكّ، وأنّ أيّ وصف آخر هو في الحقيقة خروج عن ذلك الأصل. وهذا ما يدلّ عليه عموم وإطلاق قوله عليه الصلاة والسلام: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا". [البخاري (1739). وفي تأكيد هذا الأصل يقول ابن تيمية: "وليس لأحد أن يكفّر أحدًا من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تُقام عليه الحجّة وتبين له المحجّة، ومن ثبت إسلامُه بيقين لم يُزل ذلك عنه بالشكّ؛ بل لا يزول إلاّ بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة". [الفتاوى: (12/468) ، وهذا الحكم ليس خاصًا بالتفكير فقط، بل يشمل التّفسيق والتّضليل، كما تدل عليه تقريرات ابن تيمية وغيره. وإذا كان الأصل القطعي أن المسلم هو السلامة من الكفر والفسق والضلال فإن هذا يستلزم أربعة أمور: الأول: أنه يجب الاحتياط الشديد في إصدار أي يحكم يخالف ذلك الأصل، وأنه يجب على المسلم أن يراجع نفسه ويحاسبها كثيرا قبل إطلاق تلك الأوصاف. الثاني: أنه يجب على الخارج عن ذلك الأصل أن يقدم الأدلة والمسوّغات التي اعتمد عليها في خروجه، ولا يرسل الكلام إرسالاً. الثالث: أنه يجب على المتابعين ألاّ يقبلوا قول أي أحد خرج عن الأصل في حكم المسلم إلاّ بعد أن ينظروا في أدلّته ومسوّغاته، ويقوموا بفحصها والتدقيق فيها. الرابع: أنه لا يجوز ولا يصحّ أن يُعتمد على الأحوال العبارات والمقامات المحتملة في الخروج عن ذلك الأصل. وإذا فعلنا هذه المستلزمات الأربعة فإنّا سنحقق الهدف التحذيري والغاية الاحتياطيّة التي أشارت إليها نصوص الشريعة في التعامل مع تلك الأوصاف. وإذا كانت الشريعة حذرت من التسارع إلى تضليل المسلمين وتفسيقهم، ومن كثرة استعمال تلك الأوصاف في التعامل بينهم فما هي المعالم التي تنكشف بها حالة التساهل في إطلاق تلك الأوصاف؟! هناك معالم عديدة يمكن أن نتعرف من خلالها على صورة الحالة المخالفة لتحذيرات الشريعة وعلمائها من الإقدام على تضليل الناس وتفسيقهم، ومن تلك المعالم: الأول: الاعتماد على العبارات والمقامات والأحوال المحتملة في إطلاق وصف الفسق والضلال والكفر على المسلم، وعدم الحرص على التحقّق من المعنى والمقصود الذي يريده من كلامه الشخص المسلم الذي الأصل فيه السلامة. الثاني: المسارعة إلى إطلاق أوصاف التّفسيق والتّضليل قبل التأكّد من قيام الحجّة والتحقّق من انتفاء الشبهة، وهذه المسارعة شيء عظيم في دين الله؛ لأنّها تنتهي إلى القدح في علاقة شخص من المسلمين بربّه والدخول فيما بينه وبين خالقه ومولاه. الثالث: فتح الباب لكل من مارس شيئًا من العلم والثقافة ليقوم بإطلاق تلك الأوصاف على المسلمين، وكم سمعنا من تحذيرات علمائنا التي تنهى عن فتح الباب بهذه الصورة. الرابع: التوسّع في إدخال أمور لا توجب التّفسيق ولا التّضليل في دائرة ما يوجب ذلك، وقد أكّد ابن تيمية وغيره من العلماء على أنه كما يجب علينا الاحتياط في إلحاق الأوصاف بالمعين، فإنه يجب علينا أيضًا الاحتياط في إلحاق الأوصاف بالأفعال، فكما أن الحكم على شخص ما بالكفر والضلال أمر كبير في دين الله، فكذلك الحكم على فعل ما أو على عبارة ما أو على حالة معينة بأنها توجب الكفر أو الفسق أو الضلال أمر كبير في دين الله؛ لأنها كلّها من القول في شرع الله بغير علم. الخامس: جعلها غايات لأمور أخرى، كالتحذير من الأشخاص ونحو ذلك، فلا يجوز أن نطلق ألفاظًا كلفظ: النفاق والضلال والفسق، بغرض أن نحذر من شخص ما أو اتجاه ما، فإنه يمكنك أن تصل إلى غايتك التحذيرية من غير أن تقحم تلك الحقائق الشرعيّة الشديدة الخطورة في ما تريد الوصول إليه. والاتصاف بواحدة من تلك المعالم أو بأكثر يدلّ على أن الإنسان متلبّس بالتساهل فيما حذّرت الشريعة منه، ومتهاون فيما عظّمت الشريعة شأنه. ولابدّ من التأكيد في نهاية هذا المقال أن القصد الأولي منه ليس إلغاء التفكير والتفسيق والتضليل؛ أو التقليل من شأنها، أو الدّعوة إلى إغلاق بابها، كلّ هذه الأمور غير مرادة؛ إذ كيف يُراد ذلك وهي جزء من الشريعة لابدّ لنا من التزامه والأخذ به. وإنما الغرض الدّعوة إلى الالتزام بما طالبت الشريعة به، وهو الحذر الشديد والاحتياط الكبير في التعامل مع تلك الأوصاف، والقصد منه تسليط الأضواء على ظاهرة تظهر بين الفينة والأخرى في سجالاتنا الفكريّة والحواريّة، يظهر فيها الإكثار من ألفاظ التّضليل والتّفسيق، والتّهاون في إطلاقها على الأشخاص أو الأفعال المجرّدة من غير تمحيص للاحتمالات المرادة منها، ويقصد منه أيضًا لفت النظر إلى طريقة أهل السنة في التعامل مع تلك الأوصاف تحقيقًا وإطلاقًا في حالة تحقّق الشروط، وحذرًا وابتعادًا في حالة الالتباس أو عدم تحقّق الشروط. * كرّر ابن تيمية في مواطن من كتبه شرح طريقة أهل السنة في التّفسيق والتّضليل والتّكفير، وبيّن أنهم يحسنون الظنّ بأهل القبلة، ويتحوّطون كثيرًا في إطلاق تلك الأوصاف ولا يتسرّعون فيها، وبيّن أن أهل السنة ليسوا كغيرهم؛ فهم يخطِّئون ولكن لا يتجرّؤون على التّكفير والتّضليل إلاّ بعد احتياطات كثيرة جدًا انظر مثلاً: [منهاج السنة ( 5/251)]. * في تأكيد هذا الأصل يقول ابن تيمية: "وليس لأحد أن يكفّر أحدًا من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تُقام عليه الحجّة وتبين له المحجّة، ومن ثبت إسلامُه بيقين لم يُزل ذلك عنه بالشكّ؛ بل لا يزول إلاّ بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة". [الفتاوى: (12/468)، وهذا الحكم ليس خاصًا بالتفكير فقط، بل يشمل التّفسيق والتّضليل، كما تدل عليه تقريرات ابن تيمية وغيره. بقلم: سلطان بن عبد الرحمن العميري موقع "الإسلام اليوم"