ربما يكون المكتب الذي يؤلف فيه جون ويليامز ألحانه الغرفة الأكثر هدوءاً في هوليوود، عاصمة السينما الأمريكية والعالمية! في مبنى منعزل تابع لاستوديوهات يونيفرسال (Universal Studios)، على بُعد خطوات من شركة الإنتاج التي يملكها شريكه الدائم المخرج ستيفن سبيلبرغ، يعمل ويليامز وحده· يجلس أمام بيانو كبير من طراز (ستاينواي) عمره 90 سنة، تحيط به أقلام وأوراق لتدوين الألحان الموسيقية، وعلى طاولة قريبة تلاحظ دواوين شعر قديمة تعود إلى روبرت فروست وويليام وردزورث· في أواخر شهر ديسمبر الفائت، خلال الأسبوع الذي شهد إصدار آخر عملين مشتركين بين ستيفن سبيلبرغ وجون ويليامز في الولاياتالمتحدة (The Adventures of Tintin المقتبس من الكتاب الهزلي الشهير وWar Horse الملحمي عن الحرب العالمية الأولى)، قال ويليامز في إحدى المقابلات: (علاقتي بستيفن هي نتيجة اختلافات كثيرة ومتناغمة· يعمل ستيفن مع مجموعات واسعة من الناس وهو رجل أعمال دولي· إنها البيئة التي أحتاج إليها· لا أستعمل أدوات إلكترونية معاصرة كثيرة وحواسيب كما يفعل زملائي الشباب· حين بدأتُ مهنتي، لم تكن هذه الابتكارات موجودة· هذا المجال يتطلب جهداً مكثفاً وجواً من الوحدة)· شارك ويليامز (يبلغ 80 عاماً في 8 فيفري المقبل) في 25 فيلماً سينمائياً طويلاً من أصل 26 عملاً من إخراج سبيلبرغ، وتشمل تلك الأعمال لائحة موسيقية متنوعة في أفلام مثل Jaws، Close Encounters of the Third Kind, E.T., Raiders of the Lost Ark, Schindler_s List, Saving Private Ryan. يُشار إلى أن المنتج كوينسي جونز ألف موسيقى فيلم The Color Purple للمخرج سبيلبرغ· أمضى ويليامز و سبيلبرغ مسيرتهما المهنية في صنع أفلام في هوليوود طوال جيلين بعدما تقابلا خلال موعد غداء مدبّر في عام 1972، وقد ساهمت هذه الشراكة الدائمة واللافتة في كسب 13 ترشيحاً لنيل جائزة الأوسكار عن أفضل موسيقى تصويرية فضلاً عن ابتكار أشهر المقطوعات الموسيقية في تاريخ السينما· تنوع الأسلوب عندما أُجريت هذه المقابلة كان ويليامز منهمكاً في وضع لمساته الأخيرة على لحن يعدّه لأوركسترا بوسطن السيمفونية، التي تحتفل بعيد ميلاده هذه السنة عبر الاستعانة بفنانين لإنشاد ألحانه، بمن فيهم عازف التشيلو يويو ما ومغنية الأوبرا جيسي نورمان· كان ويليامز قد انتهى لتوه من تحديث المقطوعات الموسيقية الخاصة ببرنامجَي Today وMeet the Press· بعد بضعة أشهر، يبدأ بتأليف موسيقى الفيلم الجديد Lincoln للمخرج سبيلبرغ· على خلاف العمالقة السابقين في عالم تأليف الموسيقى التصويرية في هوليوود (مثل برنارد هيرمان وديمتري تيومكين اللذين يتميزان بأنغام لافتة ومختلفة)، لم يترك ويليامز بصماته في عالم كتابة الأغاني، عدا إضافة بضع كلمات إلى النغمات السهلة· كان التنوع في الأسلوب أساس شراكتهما بحسب رأي سبيلبرغ· قال سبيلبرغ عبر الهاتف أثناء وجوده في موقع تصوير Lincoln في فرجينيا: (جون شخص متنوع جداً في مجال تأليف الموسيقى، فهو يغيّر أساليبه في كل فيلم· الاختلاف الموسيقي واضح جداً في فيلمَي Tintin وWar Horse. كل مقطوعة تناسب الخصائص التي تطبع الفيلمين المختلفين· تعكس موسيقى Tintin الظريفة حس المغامرة والتشويق وكأن المؤلف يريد مطاردة الجمهور بموسيقاه· لكن فيWar Horse، تتناسب الموسيقى مع حب الأرض وتذكرنا بذلك الزمن الغابر في أوائل القرن العشرين)· وُلد ويليامز في نيويورك وهو ابن عازف إيقاع، ثم انتقل إلى لوس أنجلس في عام 1948 عندما بدأ والده يعزف في أوركسترا (كولومبيا بيكتشرز) (Columbia Pictures). في طفولته، بدأ يتعلم العزف على البيانو: (جميع الراشدين الذين عرفتهم كانوا من الموسيقيين وهم من أصدقاء والدي· لذا ظننتُ أن الموسيقى هي ما يفعله الإنسان عندما يكبر· كان هذا المسار يبدو حتمياً بالنسبة إلي)· بعد تلك المرحلة، ارتاد ويليامز جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس، ومدرسة جوليارد وعمل كعازف بيانو في استوديوهات التسجيل وكان يعزف مقاطع لجيري غولدسميث وهنري مانشيني· كذلك عزف (ذُكر باسم (جوني ويليامز) ضمن المشاركين في العمل) مقطوعة الجاز الشهيرة التي ألّفها مانشيني لبرنامج Peter Gunn في عام 1958· سجل حافل عندما تقابل سبيلبرغ وويليامز في عام 1972، كان المؤلف الموسيقي يملك سجلاً حافلاً من الأعمال في أفلام وبرامج تلفزيونية منذ 20 عاماً تقريباً، وكان قد حصد جائزة أوسكار عن فيلم Fiddler on the Roof، وألّف لتوه الموسيقى التصويرية في الفيلم التجاري الضخم The Poseidon Adventure· في المقابل، كان سبيلبرغ في الخامسة والعشرين من عمره وكان مخرجاً لبرامج تلفزيونية ويوشك على العمل في أول فيلم استعراضي له· كان المخرج الشاب قد أصغى مراراً وتكراراً إلى لائحة من ألحان مستوحاة من الثقافة الأميركية كتلك التي ألفها ويليامز في فيلم The Reivers وأراد موسيقى مشابهة لها في أول فيلم له The Sugarland Express. بناءً على طلب سبيلبرغ، دبّر أحد المدراء في استوديوهات (يونيفرسال) موعداً بينهما· أوضح ويليامز: (اصطحبني ستيفن إلى مطعم فاخر جداً في بيفرلي هيلز لتناول الغداء· كان الأمر أشبه بالخروج مع مراهق لا يعرف شيئاً عن آداب المائدة· كان لا يزال يافعاً، فقد كان أكبر بقليل من أولادي لكن لم يكن الفارق كبيراً· مع ذلك، بدا وكأنه يعرف عن نوع الموسيقى التي أؤلفها أكثر مما أعرف أنا· كان يردد نغمات من أفلام غربية قديمة)· وافق ويليامز على العمل في هذا الفيلم بعدما أُعجب بالسيناريو وسُحر بحماس المخرج الطفولي في مجال الإخراج· هكذا، وُلدت أنجح شراكة في عالم موسيقى الأفلام في تاريخ هوليوود· قال مؤرخ موسيقى الأفلام جون بورلنجام (مؤلف Sound and)Vision: 60 Years of Motion Picture Soundtracks)) إذا دققنا بشراكتهما في سياق واسع يشمل العلاقة بين المخرج والمؤلف الموسيقي عموماً، نتذكر شراكات هيرمان وهيتشكوك، فيليني وروتا، بروكوفييف وآيسنشتاين· لكنّ هذه الشراكة بالذات تتفوق عليها جميعاً بعدد الأفلام وتنوّع المواد المقدَّمة)· رسّخت هذه الشراكة الموسيقى التصويرية في فيلم سبيلبرغ الثاني Jaws· كان سبيلبرغ قد استعمل موسيقى غير متناغمة من ألحان ويليامز، تحديداً من فيلم روبرت ألتمان Images، كمقطوعة موسيقية موقتة فيما كان في مرحلة مونتاج فيلم Jaws، وقد توقع من ويليامز تقديم النوع نفسه من الموسيقى عالية المستوى لفيلمه الذي يتناول هجوم أسماك القرش· لكن كانت أفكار المؤلف الموسيقي مختلفة· في هذا الصدد، ذكر ويليامز: (فكرتُ بابتكار نغمة غريبة إلى أقصى حد· تماماً مثل أسماك القرش، يرتكز كل شيء على الغريزة، ما يعني أن الجوّ العام قد يكون رتيباً وغرائزياً جداً وقد يثير القشعريرة في الجسم لا في الدماغ! لم يكن ستيفن يستعين بسمك القرش المُحوسب، بل كان يكتفي باستعمال الدمى المطاطية· لذا اقتصرت الفكرة على تكرار نوتتين موسيقيتين منخفضتين، ثم إضافة نوتة ثالثة في لحظة غير متوقعة، وهكذا دواليك· يمكن عزف هذه النغمة بطريقة لطيفة، ما قد يشير إلى أن القرش بعيد جداً وأن مياه البحر تخلو من الخطر· بعد ذلك، تبدأ الموسيقى الغرائزية التي تزداد صخباً وتقترب من المتفرجين لدرجة أنهم يشعرون بأن القرش سيبتلعهم)· عن هذه المسألة، يقول سبيلبرغ: (عندما عزف جوني موسيقى Jaws على البيانو، ظننتُ أنه يمزح معي· لكنه كررها مجدداً، ثم تابع عزفها حتى توقفتُ عن الضحك· كنت أفكر بموسيقى أكثر غموضاً· فقال لي: المقاربة المعقدة التي أردتني اتباعها ليست المقاربة المناسبة للفيلم الذي رأيتُه لتوي· إنه فيلم تشويق ضخم!)· رضخ سبيلبرغ لرغبة ويليامز وفاز هذا الأخير بثاني جائزة أوسكار له عن هذه الموسيقى التصويرية· بعد مرور 37 عاماً، لا تزال تلك الموسيقى المؤلفة من نوتتين فقط أشهر مقطوعة موسيقية تنذر باقتراب خطر مميت·