السيناريو المأساوي الذي حدث مؤخرا في ولاية جيجل والذي أدى إلى وفاة شاب في الخامسة والعشرين بعد أن أضرم النيران في جسده على إثر تعرض طاولته الفوضوية إلى الهدم من طرف عناصر أمن، من الممكن جدا أن يتكرر إن استمرت المطاردات لأصحاب الطاولات الفوضوية في العاصمة وفي غيرها من الولايات· وعلى الرغم من تهديد ذلك النشاط الموازي للاقتصاد الوطني إلا أن الشبان وجدوا الحل في امتهان تلك الحرف المؤقتة في ظل انعدام فرص العمل ووجدوها أحسن من اتباع طريق الحرام أو السرقة والاعتداء على الناس، وعلى الرغم من المهانة التي يتعرضون إليها وهم يمارسون مختلف أنواع تلك التجارة مهما علت طبيعة معروضاتهم أو انخفضت، إلا أنهم تحدوا كل تلك الظروف ونظرات النقص وواجهوا مختلف الصراعات من أجل الاستمرار والبقاء· لكن تبقى مطاردات الشرطة لهم من وقت إلى آخر باباً يسد طموحاتهم ويثبط عزائمهم ويدفع بهم إلى التفكير في الانتحار والنقمة على المجتمع الذي يحيون فيه· من منا لم يصادفه موقف أحد الشبان وهو يفلت بسلعته من المطاردات خاصة وأن القبض عليه سوف يعرِّضه إلى حجز سلعته وربما المتابعة القضائية وسيُتابع بتهمة العصيان، تلك السيناريوهات التي تتكرر بمحاذاة الأسواق الشعبية التي يتوافد عليها الزبائن، وعادة ما تستميلهم السلع المعروضة بالطاولات الفوضوية خاصة وأن أثمانها معقولة بل ويذهبون إلى اقتناء بعض الأشياء ويكون هدفهم في معظم الأحيان الأخذ بيد الشاب أو حتى الكهل، خاصة وأن تلك الطاولات لم تعد تفرق بين الأعمار، ويحترف الشاب والكهل وحتى العجوز البيع بها بعد أن تحولت إلى مصدر وحيد لاسترزاق الكثيرين في الوقت الحالي خاصة مع مشكل البطالة الذي يمس فئات واسعة من الشبان وحتى أرباب عائلات· وقد ألف الكل تلك الطاولات التي لم يعد هناك طعم على مستوى الأسواق بدونها في الفترة التي تعرضت فيها إلى حملة واسعة للقضاء عليها· في هذا الصدد ولرصد الوضع عن قرب اقتربنا من بعض تلك الطاولات التي عادة ما تنصب بمحاذاة الأسواق الشعبية على غرار ساحة الشهداء وساحة أول ماي وباش جراح ومارشي 12 وناحية ميسوني··· وغيرها من النواحي التي لا يسعنا المقام لذكرها كلها، فتلك التجارة صارت ظاهرة في مجتمعنا وجب تقبلها وهضم كل مخلفاتها السلبية، خاصة وأنها باتت السبيل الذي يؤدي بالشبان إلى (الحرقة) أو الانتحار (حرقا)، ولعل أن السبيلين معا يؤديان إلى نفس المآل خاصة وأن صياغتهما واحدة كما أن مدلولهما واحد فإما الموت حرقا أو غرقا على متن قوارب الموت· وهو ما بينه الشاب (فؤاد· ع) الذي كان ينصب طاولة بساحة الشهداء تلك الناحية التي لا تخرج من المطاردات بصفة دورية لمنع هؤلاء الشبان من ممارسة التجارة الفوضوية، بحيث قال إنه لم يدفعه الخير إلى هناك وإنما جيبه الخاوي وضغوط الأسرة المستمرة أدت به إلى نصب تلك الطاولة الفوضوية التي يعرض فيها سلعا متنوعة في كل مرة، وعلى الرغم من مداخيلها الضئيلة خاصة أنه يتوقف فترات في حال منعهم من نصب الطاولات هناك خوفا من حجز السلعة التي تعدُّ رأس ماله، وإن ذهبت ذهب مصدر استرزاقه، وعن تلك المطاردات قال إنه حقيقة مل منها، وتساءل إلى أين المفر؟ فمؤهِّلاتُه العلمية محدودة ومناصب الشغل قليلة جدا حتى ولو كان يحوز على شهادات بدليل أن هناك أصحاب شهادات عليا يقتسمون معه المكان في كل مرة، ومنعه من التجارة معناه حرمانه من الاسترزاق والموت جوعاً، وكان على الكل أن ينظروا إلى الأمر من زاويتين إلا أنهم نظروا إلى تأثير تلك الطاولات على الأسواق النظامية وإلى الجانب الأمني من دون أن ينظروا إلى مصير المئات من الشباب الذي جعلوا من تلك الطاولات المصدر الوحيد لاسترزاقهم بل وأحيانا مصدر استرزاق عائلات بأكملها، خاصة وأن أزمة البطالة فعلت فعلتها في الكثيرمن الشباب من مختلف الأعمار· أفضل من السرقة والاعتداء هناك من واجهنا بحقيقة مرة بالقول إن إلغاء تلك الطاولات يدفع بهم إلى الهاوية، ورأوا أن الاسترزاق منها حلالا أحسن بكثير من احتراف السرقة والاعتداء على الناس، ما وضحه لنا الشاب عيسى الذي التقيناه بساحة أول ماي وهو ينصب طاولته، قال إنه ضد فكرة القضاء على الطاولات الفوضوية في ظل الأوضاع الاجتماعية التي تعيشها الجزائر على غرار انتشار البطالة وقلة فرص العمل خاصة وأنه متزوج وأبٌ لطفلين وجعل من تلك الطاولة التي تتنوع معروضاتها مصدر استرزاق عائلته، وعلى الرغم من قلة مداخيلها إلا أنها (مستورة والحمد لله) على حد قوله، وقال إن ما يؤرقه دوما هو المطاردات له ولأقرانه في كل مرة مما جعلهم يبيعون ويمسكون قلوبهم ويترصدون قدومهم بين الفينة والأخرى، خاصة وأن حجز السلعة يعني فقدان رأس مالهم وضرورة العودة إلى نقطة الصفر، وسرد لنا قصة صديقه الذي انطلق في تجارته في الأول بعد اقتراض مبلغ 3 ملايين سنتيم، إلا أنه تعرض إلى حجز كلي للسلعة حتى أوشك على فقدان عقله، لكنه تضامن مع صديقين آخرين وعاودوا اقتناء السلعة له للانطلاق من جديد خاصة وأن تلك الواقعة كانت صدمتها عنيفة على صحته ونفسيته· وأردف آخر بالقول إن إلغاء الطاولات يعني دفعنا إلى الفراغ والبطالة الذي قد يؤديان إلى عدة إفرازات منها تعاطي المخدرات، السرقة، والاعتداء على ممتلكات الناس والعياذ بالله في ظل انعدام فرص عمل بديلة، ولو كان بيدنا لاخترنا مراتب أعلى وأحسن وليس المكوث بتلك الطاولات منذ بزوغ الشمس وإلى غاية سدول الظلام، وما زاد من تأزم الوضع تلك المطاردات الروتينية التي أنهكت قوانا وأرقتنا كثيرا وجعلتنا دوما نفكر في الانتحار ووضع حد لحياتنا الضائعة التي ضيعتها السنين ولامبالاة بعض أصحاب القرار الذين ينظرون إلى بعض الظواهر التي كانت وليدة الظروف الاجتماعية المزرية من جانب واحد، ويتحجَّجون بالظروف الأمنية التي تستدعي القضاء على تلك الأسواق الفوضوية مرة وبتأثيرها على التجار لنظاميين في مرة أخرى، من دون التفكير في مصائر المئات من الشبان في حال ما تم القضاء عليها نهائيا· وما أكده كل من تحدثنا إليهم أنهم بالفعل يحنون إلى مناصب عمل قارة تنسيهم تعب وهمّ تلك الطاولات، لكن أن تلغى الطاولات ويدفع بهم إلى قوقعة البطالة والفراغ القاتل فلا وألف لا، خاصة وأن الحق في الاسترزاق والعمل حق مكفول للجميع أم أنه إذا وصلنا إلى تلك الفئات البسيطة من المجتمع يحق للبعض تقاذفها كالكرة والتحكم في مصائرها، وأجمع الكل أن إلغاء تلك الطاولات وجب أن يقابله الاستفادة من مناصب عمل للقضاء على المشكل من رأسه، وليس مراعاة جوانب وإهمال جوانب أخرى وقد تكون هي الجوانب الأساسية الأحق بالرعاية، خاصة وأن تلك القرارات الارتجالية أدت بالعديد من الشبان إلى الانتحار حرقاً آخرها كانت مأساة الشاب حمزة الذي مات متأثراً بالحروق بعد أن سكب البنزين على كامل جسده·