تتخذ موجة الجرأة على الإسلام أشكالا متعددة لعل أخطرها انتشار فوضى الألقاب والتساهل في إطلاق المسميات على بعض من يتصدرون العمل الدعوي والعام، فأصبحنا نعيش أزمة فكرية تسبب فيها بعض من يحرصون على تقديم أنفسهم للمجتمع باعتبارهم من العلماء والفقهاء والمجتهدين، حيث نجد الكثيرين يطلقون على أنفسهم لقب الباحث الإسلامي والمفكر والعلامة والمجدد وشيخ الإسلام والقطب وغيرها من المسميات· تتفاقم المشكلات عندما يستغل بعض الأدعياء هذه المسميات والصفات للخوض في الموضوعات والتشريعات والعلوم الإسلامية والفتوى بغير علم بلا تخصص ودراية وأهلية، ويدلون بدلوهم ويشاركون بآرائهم، بل ويحكمون باجتهاداتهم في أدق الأمور الشرعية وأكثرها عمقا وهم يمارسون ذلك بكل بساطة وسهولة وبلا أدنى حرج أو تهيب أو شعور بافتقارهم للعلم بهذه الموضوعات فضلا عن التخصص فيها· والأخطر أنهم يتحدثون في كل شيء ويجيبون عن كافة التساؤلات، فانعدم من يقول لا أدري، وقل من يقول الله أعلم، واستفحلت السطحية والتناقض والغوغائية وانتشرت الفوضى بين الناس· مبدأ التخصص ويقول الدكتور أحمد فؤاد باشا، نائب رئيس جامعة القاهرة الأسبق، وعضو مجمع البحوث الإسلامية، إن الإسلام دعا إلى مبدأ التخصص في الأعمال والتكاليف، وحث على أن يقوم كل إنسان بما يحسن، والمجتمع المتكامل الذي حرص ديننا الحنيف على إقامته ينهض على فكرة التخصص وتقسيم الأعمال بحيث توزع المهام والعلوم بين الأفراد، كل واحد بما وُهب الله له من قدرة ومعرفة في مجاله، أو بما أوكل إليه من مصالح المسلمين· ويؤكد أن القرآن الكريم والأحاديث الشريفة حضت على الأخذ بهذا المبدأ في كل مجالات الحياة، إذ يقول الله تعالى: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) التوبة 122، مضيفاً أن الحق سبحانه بيَّن في محكم آياته ضرورة رد الأمور إلى أهل الاختصاص في قوله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) 59 النساء· ألقاب بغير سند وحذر من التهاون وعدم التمسك بهذا المبدأ الحاكم الذي تتحقق بتطبيقه نهضة المجتمعات، ومجتمعاتنا لم تراع هذا التوجيه الإلهي وأهدرت الأخذ به في كافة مناحي الحياة، وكانت العاقبة اختلاط الأمور وتعطل المصالح وتضييع الحقوق والواجبات وعمت الفوضى وقل الإنتاج وأصبحت أمتنا عالة على الأمم الأخرى تتسول منها لقمتها ودواءها وتعتمد عليها في كل شيء· وشدد على ضرورة الالتزام بمنهج الإسلام في عدم وضع المرء في غير مكانه وتخصصه وقدراته، مشيرا إلى أن رسالة الخلافة في الأرض وإعمار الكون تتحقق بتطبيق حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، إذ يجب على الإنسان أن يبحث عن المجال الذي يتخصص فيه بما يتفق مع ميوله ومواهبه وقدراته وظروفه حتى يؤدي ما عليه من أعمال ومهام ويساهم في رقي مجتمعه وأمته· وأضاف: إذا كانت القاعدة الشرعية تقضي بأنه لا يجوز أن يكلف الإنسان بالقيام بأعمال لا يستطيع القيام بها، فلا يصح أن يتصدر الإنسان لأعمال لا قدرة له على أدائها أو أن يطلق على نفسه صفاتٍ وألقاباً بغير سند من علم أو تأهيل لتعارض ذلك مع قوله تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) 286 البقرة، وقوله سبحانه: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) 7 الأنبياء· دور وسائل الإعلام ويقول الدكتور أحمد محمود كريمة، أستاذ الشريعة بجامعة الأزهر، إن وسائل الإعلام تسببت في تعميق الفوضى الفكرية في مجتمعاتنا نتيجة عدم تحريها الدقة والتساهل في إطلاق المسميات والصفات على الأشخاص الذين تتوجه إليهم بالسؤال في مجالات المعرفة المختلفة وخاصة الشرعية بلا إحاطة كافية بمدى جدارتهم العلمية، مبينا أن المنابر الإعلامية ساهمت في صنع بعض النجوم الدعوية بما أسبغت عليهم من ألقاب ومسميات أدت إلى تجرّئهم على مسائل الإسلام وقضاياه وترويج المغالطات التي تسيء إلى الدين الحنيف· ويضيف أن اقتحام غير المتخصصين الذين يبدون آراءهم في أمور الشرع وتجريح الآراء الفقهية التي تكون في أمور معلومة من الدين بالضرورة يحتاج إلى معالجة ومواجهة تشارك فيها جميع المؤسسات الإسلامية الفاعلة بمنهجية وخطوات مدروسة واستشعار لخطورة المسألة، مؤكدا أنه لا يمكن السيطرة على تناول الموضوعات الدينية والتي تهم قطاعات كثيرة في المجتمع أو التحكم في عملية الإفتاء مع وجود الفضائيات خاصة أن جانبا مهما من الإشكالية يساهم فيه انصراف أو انزواء بعض الأساتذة والعلماء المتخصصين في الشريعة وعدم حرصهم على التصدي لقضايا الشأن العام وتقديم الرأي العلمي الشرعي في وقت الحاجة مما يساهم في تصدُّر الأدعياء الساحة وتضليل الناس وعدم إرشادهم إلى الموقف الصحيح المطلوب في الفتن والاضطرابات· وأوضح أن قيام المرجعيات الدينية المؤهلة من الناحية العلمية بواجبها نحو تثقيف الناس وزيادة وعيهم وثقافتهم الدينية يمنع أدعياء العلم ويحمي الدين من عبث العابثين، وأشار إلى أنه لا يجوز للمسلم أن يقصر في طلب المعرفة والمشورة من أهلها، وإنما تقع عليه مسؤولية البحث عن أقدر الناس على الإجابة عن سؤاله، وإسداء المشورة له عن علم وأمانة وخبرة وتخصص· التجرؤ على الدين ويقول الدكتور مبروك عطية، أستاذ ورئيس قسم الدراسات الإسلامية بجامعة الأزهر، إن الفتن والانقسامات التي تسود مجتمعاتنا تقف خلفها آفة التجرؤ على الدين والعلم وإطلاق المسميات والألقاب على بعض الأدعياء الذين يحرصون على إضفاء المسحة الدينية والادعاء بأن حديثهم ينبع من الإسلام وأنه تبيان للحكم الشرعي ولحكم الله ولا يحرصون على التواضع والاعتراف بأن ما يقولونه آراء شخصية ظنية تحتمل الخطأ والصواب· ويؤكد أن عدم إغلاق الباب أمام الأدعياء وأنصاف العلماء والمشككين من الجهلاء الذين ليست لديهم معرفة بسعة الفقه الإسلامي وتيسيره على الناس يؤدي إلى إشاعة الضلالات والأباطيل بين الناس، مشيرا إلى أن خطورة القضية تتضح عندما يرفض بعض الأدعياء اعتراض أهل العلم والتخصص على ما يقولونه من ترهات بحجة أن الإسلام دين الجميع وأنه يقبل الاختلاف والاجتهاد ولا يوجد فيه رجال دين أو طبقة كهنوت وأنه لا حجْر على الحريات والفكر في الإسلام· ضرورة التصدي للأدعياء يوضح الدكتور مبروك عطية، بحسب (الاتحاد)، أن هذه المقولات كلمات حق أريد بها باطل، والإسلام دين يعترف بالحرية الفكرية ويحتفي بها ويحض عليها ويأمر أتباعه بالنظر العقلي والاجتهاد العلمي والمشاركة إلا أن القواعد الشرعية والأصولية أكدت عدم إلغاء شرط العلم وإغفال جانب التخصص لمن يفتي ويعلم ويقول في الشرع، والله تعالى يقول: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)، وقال إن الإسلام يعترف بفضل العلم وأهمية دور العلماء ويحارب الجهل والتخلف وإشاعة البدع ويرفض أن يكون الدين تبعا لأهواء الناس يفتي فيه الجاهلون والمتعالمون· وأضاف أنه يجب على المؤسسات الدعوية التصدي للأدعياء الذين يتحدثون بغير تأهيل علمي أو ثقافة دينية تؤهلهم للحديث عن الإسلام وأصوله، وتبين للناس زيف منهجهم وقلة علمهم حتى تقضي على ما يحدثونه من بلبلة وأخطاء شرعية· * تتفاقم المشكلات عندما يستغل بعض الأدعياء هذه المسميات والصفات للخوض في الموضوعات والتشريعات والعلوم الإسلامية والفتوى بغير علم بلا تخصص ودراية وأهلية، ويدلون بدلوهم ويشاركون بآرائهم، بل ويحكمون باجتهاداتهم في أدق الأمور الشرعية وأكثرها عمقا وهم يمارسون ذلك بكل بساطة وسهولة وبلا أدنى حرج أو تهيب أو شعور بافتقارهم للعلم بهذه الموضوعات فضلا عن التخصص فيها· والأخطر أنهم يتحدثون في كل شيء ويجيبون عن كافة التساؤلات، فانعدم من يقول لا أدري، وقل من يقول الله أعلم، واستفحلت السطحية والتناقض والغوغائية وانتشرت الفوضى بين الناس·