يقضي الكثيرون نهارهم في رمضان، وكلّ تفكيرهم ينحصر في مائدة الإفطار، والساعة التي يرتفع فيها صوت المؤذن معلنا نهاية يوم كامل من الصوم، فيمضي هذا وقته في تخيل الأطباق والوجبات التي ستعدها له أخته، ويوصي الأب ابنته كل صباح بما يشتهي أن تحضره له في المساء، ويبالغ آخر بأن يزود هاتفه النقال بالمكالمات غير المحدودة حتى يتصل بزوجته كل ساعة ليطمئن فيها على الأطباق المحضَّرة على المائدة، فماذا لو لم يجد الأب او الأخ والزوج أكلاتهم الموعودة ساعة الإفطار؟ هي ظاهرة وقفنا عندها بداية شهر الرحمة والغفران.. أولى الحالات التي صادفناها هي حالة نادية الذي تسبب طبق البوراك في انفصالها عن زوجها، لا تستغربوا فالمسكينة لم تكن لديها مادة الديول لتصنع منها طبقاً زوجها المفضل وهو البوراك، فاكتفت بأطباق أخرى اعتيادية على مائدة الإفطار، ولم تعر الأمر أهمية، لكن زوجها كان له رأي آخر، حيث بدا قلقاً عندما لم يجد البوراك فوق المائدة، ولما سألته زوجته عن سبب نرفزته اكتفى بمعاتبتها، لكنها أخبرته أن الأمر لا يستدعي حتى مجرد الذكر، فثار عليها واتهمها بأنها لا تحبه، وأنها تعمدت ألاّ تعد له الوجبة التي يشتهيها، فدخل معها في ملاسنات كلامية، انتهت بان نطق الزوج بكلمة الطلاق، وتعترف نادية قائلة: "صحيح انه كان عليَّ أن انتظر حتى يهدأ ويتناول قهوته وسيجارته، قبل أن أتحدث معه في الموضوع، وانه ربما يكون غاضبا من شيء وقع له في العمل او خارجه، وان طبق البوراك كان كالقطرة التي أفاضت الكأس، لكن ذلك لا يعني أن يصل الأمر بيننا إلى تلك الدرجة، ثمّ كيف يفكر بأنني لا أحبه لمجرد أنني لم اصنع له وجبته المفضلة؟ كان من المفروض أن يلوم نفسه قبل أن يلومني، انه نسي أن يشتري الديول، فكيف يمكن لطبق بوراك أن ينهي علاقة دامت أكثر من ست سنوات؟". كما قص علينا رضا انه اشبع أخته ضربا لأنها أحرقت "اللحم الحلو"، وهو الأمر الذي اعتبره رضا غير لائق؛ فالمرأة يجب أن لا تحرق أكلها، وقد حاول تبرير فعلته بأنه أراد تأديبها وردعها حتى تهتم أكثر بالأعمال المنزلية ومنها الطبخ، لكي تكون امرأة وزوجة صالحة مستقبلا، فهو، أضاف محدثنا، لم يضربها لأنها أحرقت الطبق وإنما لكي لا تكرر فعلتها، لكن رضا لم يخف علينا في النهاية أن ما أثار غضبه انه كان يشتهي تلك الأكلة، ولما أخبرته أخته بما حدث لم يتمالك أعصابه، وانهال عليها ضربا، حتى انه خاصمها، ولم يتحدث إليها منذ بداية شهر المغفرة، وفي الحقيقة فلا اشتهاء طبق "اللحم الحلو" ولا الخطأ الذي ارتكبته أخته تستحق عليه الضر والاهانة، بل والمقاطعة التي استمرت منذ ليلة الإفطار الأولى، وقد تدوم كامل شهر رمضان، بل وربما بعده كذلك، وما سبب تعصب رضا إلاّ لأنه لم يفقه شيئاً من رمضان، ومن حكمته، وأنه حسب مثل الكثيرين أنّ الشهر هو فرصة لملء البطون، والأكلات الشهية والأطباق المتنوعة. أما عمي السعيد فقد بدأت قصته عندما تعالت صرخاته، وسمع كل سكان العمارة التي يسكنها صوته، فتدخل الجيران لتهدئته، ولأنه كان موعد الإفطار فقد ظنوا أنّ حدثا جللا أصاب عمي السعيد، او واحدا من أسرته، وجعله يصرخ ويقيم الدنيا، فسارعوا إليه، البعض منهم يواسيه، والبعض الآخر يعرض عليه المساعدة، وآخرون يحاولن تهدئته، ولما سألوه عن سبب ثورته، وشجاره مع أفراد عائلته، فاجأهم حديثه، حيث اخبرهم انه أكد على بناته أن يشتروا له مشروب "شاربات" ليتناوله بعد الإفطار لكنهم لم يفعلوا، وهو ما جعل الجميع يحتارون لأمره، ولم يفهموا إن كان عليهم تهدئته، او الضحك على الموقف الذي بدا أكثر من غريب، خاصّة وأنّ عمي السعيد صاحب السبعين سنة، كاد جادا وبدا موقفه مثيرا للشفقة والسخرية معا. أما عمي الربيع فقد أقسم أنه لن يأكل شيئا في منزله مستقبلا، وذلك بسبب طبق الشربة التي لم تحسن زوجته إعداده، حيث أضافت له كميات زائدة من الملح، رغم أن عمي الربيع مصابٌ بمرض مزمن يجعله لا يحتمل أكل الملح، وفي وقت الإفطار تذوق الشوربة فوجدها مالحة، وعندما ثار واهتاج حاولت زوجته أن تتعذر له بأنها لا تستطيع أن تتذوق الأكل في النهار، ولهذا فلم تتفطن لكمية الملح التي أضافتها، وقد تكون وضعت الملح مرتين لهذا لم تتفطن للأمر، أما عمي الربيع فقد كان قد سيطر عليه الغضب، وظن أنها لم تفعل ذلك إلا عمدا، حتى تتخلص منه، وألقى باللوم على كامل أفراد العائلة التي شاركتها، فيما سماه بجريمتها، ومحاولة قتله، لكن عمي السعدي انقلب كليا وهو يتناول السيجارة الأولى، وراح يهدأ حتى استبدل الغضب بالضحك وراح يعتذر لزوجته وأولاده، على انه افسد عليهم وجبة الإفطار من جهة، وعلى انه اتهمهم جميعها بالتآمر عليه، لكنه قال أنّ السيجارة هي من فعلت به ذلك خاصّة في اليوم الأول من رمضان. شتائم جارحة، وضرب مبرح، ومواقف خصومة، وحالات طلاق ساعة الإفطار، هي حقيقة بعض الرجال العصبيين الذين يغفرون كل الذنوب إلا ما تعلق ببطونهم، حيث يقيمون الدنيا ولا يقعدونها إذا اصطدموا بمائدة إفطار ناقصة، وقد يتعدى الأمر حدود المعقول، حيث تقع اعتداءات كثيرة، وقصص لا بداية ولا نهاية لها، أبطالها أشخاص لم يفقهوا من صيامهم، وللأسف، إلا أنهم حرموا من الأكل والشرب طيلة نهارهم، ولا بد من تعويض ذلك في مسائهم، وفي النهاية عادة ما تذهب الزوجة والأولاد ضحية عصبيته المفرطة التي يتهم بها رمضان زوراً وبهتاناً.