بقلم: الدكتور جيلالي بوبكر * لقد غرق العرب والمسلمون في الفساد الاجتماعي والانحلال الأخلاقي وفي التفسخ والمسخ السلوكي منذ أن أقصى حكامهم الأخلاق من الحياة السياسية وأبعدوها عن ممارسة السلطة والحكم، فانعكس ذلك على الرعية التي أصبحت كولاتها تُعلن الحرب على كل مخالف وتعرّضه للخطر، وازداد الانحلال الأخلاقي توسعا وتفشيا مع مرور الزمن ومع الانفتاح على الغرب ونهضته وحضارته، وشكّل الاستعمار أحد أسباب المسخ الثقافي والأخلاقي والفكري الذي عرفته الكثير من الشعوب العربية والإسلامية في جميع البلدان التي تعرّضت للاحتلال الغربي الحديث والمعاصر، من خلال ممارسات شتى وبأساليب ووسائل شتى تستهدف القضاء على أخلاق العرب والمسلمين وعلى دينهم ولغتهم وثقافتهم وتاريخهم، وكان للقيّم التي تأسست عليها النهضة الأوربية الحديثة وهي قيم الحداثة والتحديث دورها البارز في صرف الحياة العربية الإسلامية عن موروثها الأخلاقي والديني شارك في ذلك التغريبيون من الحكام وممن يُحسبون على الفكر والثقافة والعلوم، فبجهودهم وحتى بعد تحرير الأرض من الاستعمار انتشرت قيّم الحداثة في شكلياتها لا في مضمونها، وتصارع الفكر الغربي اللّيبرالي مع الثقافة الاشتراكية، وكان الانتصار لأحدهما أو لهما معا على حساب الفكري الإسلامي في الأخلاق والمناهج والأهداف وعلى حساب اللّغة العربية التي تحوي هوية الأمة ولسانها وتراثها وتاريخها. بفعل انتشار قيّم الحداثة خارج الغرب الأوروبي وخاصة في مستعمراته، عرّض هذه المستعمرات لغزو ثقافي وفكري كاسح تجاوب معه التغريبيون بإيجابية كبيرة واستفادوا منه واستولوا على مراكز السلطة وصناعة القرار فحافظوا على مصالح الاستعمار ومثلّوه أحسن تمثيل في فرض ثقافته والدعوة إلى العيش وفق أملاءاته ومحاربة قيّم وتراث ودين وتاريخ الأمة، فبعدما كان الاستعمار ينفق على مستعمراته خلال الاحتلال صار يستعمرها من دون إنفاق بعدما تحرّرت الأراضي المحتلة، فهو يدير شؤونها السياسية والاقتصادية وينهب خيراتها وثرواتها الطبيعية، وتعيش هي على ثقافته، حيث أصبحت شعوبنا الإسلامية المعاصرة تتشبّه في حياتها بمظاهر الحياة الغربية الأوروبية والأمريكية في التفكير واللّباس والطعام وفي كل جوانب الحياة، حتى أننا لا نستطيع التمييز بين ما هو تغريبي وما هو عربي إسلامي في كثير من البلدان الإسلامية. إنّ الحداثة رسّخت قيّمها وصرنا نعمل على تعظيم الإنسان لا خالق الإنسان وتمجيد العقل والعلم لا الوحي الرباني الذي يدعو إلى إعمال العقل وإلى بذل الوسع في العلم وإلى فصل السياسة والسلطة ونظام الحكم والحياة السياسية عامة عن الدين والأخلاق، وما زاد في تكريس التبعية وتقوية غلبة الآخر وتعميق ضعفنا هو تخلفنا وعجزنا التام عن إنتاج ما نأكل وما نلبس وما نسكن فيه وما نركبه وكل شروط ولوازم الحياة، خاصة بعد التفوق العلمي والتقدم التكنولوجي الذي حققه العالم المتطور في العمل ووسائل العمل وفي الإنتاج في جميع جوانب الحياة زراعة وصناعة وتجارة وخدامات ونقل واتصال وإشهار وبحث علمي وتكنولوجي وغيره، إذ صار عالمنا المعاصر عالم العلم والتكنولوجيا، التكنولوجيا التي تحتكرها الأمم المتقدمة من دون اعتبار للعالم المتخلّف ولحقوقه على الرغم من أنّ المواثيق الدولية التي شرّعتها العولمة في إطار النظام العالمي الجديد تنصّ على احترام حقوق الإنسان وعلى حقّه في العلم والتكنولوجيا وفي العيش الكريم، لكنّ هذا يبقى مجرد شعارات زائفة، فما يجري في الواقع يندى له الجبين إذ تمارس القوى الكبرى أقسى صنوف المعاملات السيئة مع الأمم المستضعفة، منها ما يجري على الأراضي الفلسطينية وفي العراق وفي أفغانستان وفي غيرها من البلاد العربية الإسلامية وفي مختلف بقاع المعمورة. إنّ تكالب القوى الكبرى على ثروات الشعوب المتخلّفة وحربها الضروس على ثقافاتها وأديانها خاصة على الدين الإسلامي وتعاليمه واتهامه وأهله بالتحجر والتخلف والعنف والإرهاب وتفوّق هذه القوى العلمي والتكنولوجي والعسكري وازدهارها الاقتصادي وفرض هيمنتها في السلم والحرب وبالقوة وبغيرها، كل هذا زاد في المسخ والانحلال الذي تعرفه حياتنا في المغرب العربي وفي مشرقه وفي سائر البلاد الإسلامية، ومظاهر الانحلال الأخلاقي وتداعياته كثيرة كانت لها عواقب وخيمة على العروبة الإسلام والمسلمين، تفككت الأسرة ولم يعد لها الدور التربوي والأخلاقي والتعليمي الذي يحفظ للشخصية العربية الإسلامية كيانها ووجودها واستمرارها، وفسدت العلاقات بين مكوناتها بين الأم والأب والأولاد والآباء والأجداد، وغابت أواصر التماسك الأسري الدينية والأخلاقية التي جعلت من أفراد أمة الإسلام أسرة واحدة في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم)، وعلى الرغم من التقدم في مجال العلوم والتكنولوجيا وفي تنظيم المجتمع والحياة عامة فقدت المدرسة الدور المنوط بها ولم تقدم ما عليها في مجالي التربية والتعليم وذلك لاستحالة الرسالة التعليمية التعلمية التربوية للمدرسة إلى وظيفة وإلى أرقام وإحصائيات، ناهيك عن فساد العلاقات بين مكونات المدرسة الروحية المعنوية والمادية والتنظيمية والبشرية، فلم تعد قائمة على حب العلم والتعلم والتربية لدى المعلمين ولدى المتعلمين، ولا على الاحترام المتبادل بين أعضاء الفريق التربوي والإداري داخل المؤسسة التربوية، ولم يعد العلم الذي تقدمه المدرسة معولا عليه في ظل وجود مؤسسات تعليمية خاصة شرعية وشرعية منافسة، وفي وجود جهات تقوم بتعليم أبنائها خارج الوطن العربي والإسلامي. ولم تنل المدرسة حقّها من الاهتمام والعناية والاحترام لا من قبل السلطة ولا من قبل عامة الناس مما جعل الناس يعزفون عن التوجه نحو العمل في قطاع التربية والتعليم الذي أصبح سببا في الفقر ومثارا للاستهزاء والسخرية.