يرى الكثير من المفكرين والباحثين أن العولمة أوجدت فراغا نظريا عميقا في التصور الذي شكّله الإنسان عن هويته في جميع مستويات الحياة، ففي كتاب ''صعود اللاّمعنى'' يشير صاحبه الفيلسوف الفرنسي كورنليس كوستر ياديس ''إنّ عالمنا قد غدا يعيش ظاهرة فريدة في تاريخ البشرية، هي تفتت وتفكك المرجعيات والمنابع المنتجة للدلالة''. تقوم إيديولوجية العولمة على قيّم الثقافة الغربية الحديثة والمعاصرة المتطورة باستمرار، ''وتعتبر المادية الجديدة هي عنصر الاعتقاد الحقيقي في الثقافة العلمانية الغربية الحديثة، أما الدين والمعتقدات المسيحية فقد تخلّى عنها الفلاسفة والمفكرون والمثقفون وكثير من المجتمعات الغربية في أوربا وأمريكا، وكان للظروف التي عرفتها أوربا الغربية قبيل وخلال وبعد نهضتها الحديثة الأثر في نشأة وتكوين الفكر العلماني الحديث والمعاصر في الثقافة الغربيةوالأمريكية، ومنه تمّ فصل السلطة الدينية اللاهوتية عن السلطة الزمنية، وتحررت الدولة حكومة وشعبا من سلطة الكهنوت والكنيسة، وتأسست الثقافة في المجتمع على العقلانية والتنوير والعلم والحرية والحداثة والتحديث، وساير هذا التوجه الفكري والنظري والثقافي توجه عملي ميّزه التطور التكنولوجي في وسائل وأساليب التأثير في الطبيعة وتسخيرها لخدمة مصالح الإنسان، وكان كل هذا قد تمّ بعد الإصلاح الديني والسياسي والتربوي، وتمثل في التقدم العلمي والتقني وفي الانفجار الصناعي الذي غيّر مجرى حياة الإنسانية ومسارها، وحصل بعد الانقلاب على الثقافة اللاهوتية والتمسك بالتوجه العلماني والاعتقاد المادي، وانتهى إلى تمكين الأفراد من الحرية الكاملة في المعتقد والتديّن وحياد الدولة كليا في ذلك لأنها دولة علمانية لا دينية، إبعاد سلطة الكنيسة واللاهوت عن التدخل في شؤون الدولة السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها، تجريد الكنيسة ورجال الدين من أي نفوذ على المجتمع وعلى أفراده، التوجه المادي العلماني للثقافة الغربيةوالأمريكية الذي اتخذ منه الغرب وأمريكا التوجه العالمي أو العولمة، كانت له إفرازات أثّرت سلبا على حياة الإنسان في جميع جوانبها، وفي جميع أنحاء العالم، بما في ذلك الولاياتالمتحدةالأمريكية وبلدان الغرب الأوربي، وكان ذلك التأثير بدرجات متفاوتة، اتجهت الثقافة الأوربية والأمريكية نحو العناية بتفعيل وترقية النظريات العلمية ذات الطابع المادي البحت مثل نظرية النشوء والارتقاء الداروينية في البيولوجيا، ونظرية المادة والسلوك في علم النفس عند ''ريبوتيودول''، ونظرية ''إميل دوركايم'' في علم الاجتماع، ونظرية التحليل النفسي لدى ''سيجموند فرويد'' وغيرها كثير، وأخذت تشجع أية نظرية علمية مادية، أو أي نظرية تشجع التوجه المادي في العلوم والثقافة والفكر وفي الحياة عامة، على الرغم من مبالغة كبيرة ومعلن عنها في ذلك، وعلى الرغم من تعرض تلك النظريات المادية للتمحيص والنقد وتم اكتشاف أخطائها، ''إن الإنتاج الثقافي العلماني الأوربي والأمريكي - نتيجة لعدم تقيده بمفاهيم ثقافية دينية وانطلاقه من مفاهيم مادية - أضفى عليه طابعا انحلاليا يهاجم المعتقدات الدينية والأخلاق الدينية والمفاهيم الدينية، وكأن بينه وبينها عداء، وكان المتوقع للنظرة المادية - التي تتقيد بها الثقافة العلمانية الغربية - أن تقف موقفا محايدا بالنسبة للأديان وذلك الموقف المعادي للأديان لا تجده في الثقافات الأخرى مع أن كثيرا منها ينطلق من اعتقادات دينية غير سماوية مثل الثقافة الهندية والثقافة الصينية اليابانية''. ينصب العداء الثقافي العلماني المادي في الولاياتالمتحدةالأمريكية والغرب الأوربي لكل من يعارض النزعة المادية العلمانية، أفراد وجماعات، تيارات وفلسفات وديانات، وإذا كان الإسلام عقيدة وشريعة يكشف عن الزيف والظلال الذي تنطوي عليه النزعة المادية وعلى ما فيها من قصور، وما يترتب عن الإيمان والعمل بها من اختلال وفساد في الحياة الروحية والمادية معا، ليس من الغريب ''أن عداء الثقافة العلمانية الغربية الحديثة المادية ينصب أساسا على الثقافة الإسلامية، بل إن القادة السياسيين وقادة الثقافة والفلسفة والفكر يصوبون سهامهم نحو الثقافة الإسلامية ويتخذون منها العدو الرئيسي لثقافتهم العلمانية المادية، وكثير من آراء بعض هؤلاء القادة مثل الرئيس ''نيكسون'' و''فوكوياما'' و''هتنغتون''... وغيرهم، وصراع الحضارات وحوار الحضارات تتجلى فيها هذه الأفكار المعادية للفكر الإسلامي. أما العلمانيون في البلاد العربية والإسلامية فإنهم يقلدون الأدباء والفنانين الغربيين دون الوعي باختلاف المفاهيم الثقافية مما جعل إنتاجهم الثقافي يحمل مفاهيم علمانية مع أنه قد يكون مكتوبا باللغة العربية. وعموما فإن الثقافة العلمانية الغربية الحديثة - في جوهرها - تهدف إلى القضاء على كل الثقافات وخاصة الثقافة الإسلامية والثقافة الصينية''. لكن الغريب ليس في العداء القائم بين العلمانية والإسلام، ولا في التعارض بين الإسلام والمادية، والمادية والعلمانية من مقومات ثقافة العولمة وإيديولوجيتها واستراتيجياتها، إنما الغريب في تناقض الحال في الثقافة الغربية برمتها، من حيث هي ثقافة علمانية في الظاهر والعلن معادية للعقائد والأديان، لكنها تقوم في السر والخفاء على أصول دينية نصرانية ويهودية، والأكثر من ذلك كله تقوم على معتقدات الحركة الصهيونية العالمية التي تجانب الحقيقة وتخدم مصالح خاصة ضيقة، وتشكل خطرا ليس فقط على الفلسفات والثقافات والديانات الأخرى، بل على الثقافة الغربية ذاتها، فأي فكر يقف في طريق أطماع الصهيونية العالمية ولو التزم بأقصى درجة الموضوعية والحياد، فهو معاد للسامية يجب التخلص منه بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة، هذه النزعة العنصرية بكل ما تحمله من عداء للأديان والثقافات والشعوب هي التي توجه السياسة العالمية، وهي التي تتحكم في مراكز القرار في العالم، وهي التي تضرب بقوة وبيد من حديد في مناطق النزاع الحيوية وتدير الصراعات والنزاعات في العالم الأهلية والإقليمية والدولية الأممية، وهي التي تتصرف في المال والأعمال والاقتصاد والعسكر، وهي التي توجه الإعلام وتنشر الانحلال والرذيلة، فالعولمة في إيديولوجيتها أمريكية صهيونية، والأمركة المتصهينة هي وراء كل المشاكل التي تعاني منها شعوب العالم، بفعل العولمة ظهر الصراع العربي الإسرائيلي الصهيوني ولم تعد مطروحة المسألة اليهودية وظهرت المسألة الفلسطينية، وهي عيّنة من المعضلات التي أنجبتها العولمة الغربية وساهمت في تفاقمها الأمركة المتصهينة، وأنجبت معضلات كثيرة، فقر وتخلف وحروب ونزاعات وعدوان، حتى الأرض والطبيعة والجغرافيا لم تسلم من أضرار العولمة ومخاطر النظام العالمي. يرى بعض الباحثين أن الطابع المادي للحضارة الغربية نابع من كونها حضارة قامت على الصناعة بالدرجة الأولى، الصناعة التي تفجرت بفعل التقدم العلمي والتكنولوجي، فازدهر الاقتصاد في الإنتاج من حيث الكم والكيف وازدهرت معه التجارة والاستثمار بفضل تجمع رؤوس الأموال في الطبقة الرأسمالية، وتميّزت حضارة عصر الصناعة عن غيرها من الحضارات التي سبقتها ولم تقم على الصناعة، ''بأمور كثيرة مهمة. إنها ما كان لها أن تبدأ لو لم يسبقها التحول إلى عصر الكتابة وتقدم التعليم النظري والعلمي مع التخصصات الفنية والأكاديمية، ونشوء كيانات للبحث العلمي وتضحيات تاريخية من العلماء الباحثين.. هذا على عكس حضارتي الزراعة أو الرعي، إذ يمكن أن تستمرا مع توافر مستوى تعليمي محدود، يمثل فيها الكتبة ورجال الدين صفوة المجتمع''. فالثورة الإنتاجية المطردة التي تُميز حضارة الصناعة عن حضارة الرعي أو حضارة الصيد أو حضارة الزراعة، وهي حضارات ذات طابع نمطي، أما الحضارة الصناعية فهي حضارة التنوع والتعدد، فالنمطية تكرس الثبات والاستقرار، أما التنوع فيوجد الإبداع والتجديد، فالغنى الفكري والثقافي والاقتصادي والاجتماعي مرهون بمدى ودرجة تدخل الإنسان فيما يقوم به من أفعال في حياته الاجتماعية، وفيما يسجله من تدخلات مؤثرة على الطبيعة، والحضارة الصناعية هي الوحيدة التي سجلت أكبر تدخل للإنسان أثّر في الطبيعة، و''تميزت بثراء فكري اجتماعي، وفهم لظواهر الطبيعة والإنسان والمجتمع، وأفادت الكتابة في تسجيل وإثبات حصاد فهم وفكر الإنسان المجتمع، كما أفادت في إثبات ذلك موضوعيا ليكون موضوع الحصاد المعرفي وجعله موضوع حوار وثقافة علمية عامة. وازداد هذا الحصاد نقاء وموضوعية وصياغة نظرية وكشفا عن قوانين الظواهر من خلال الدراسات الأكاديمية.. وتطورت الجامعات، وتعددت التخصصات، وأصبح للعلم وللعلماء دور ومكانة عظيمان''. والعمل في الحضارة الصناعية يتنافى مع النمطية، فهو يتغير ويتجدد باستمرار بفعل الإبداع الذي تسمح به فرص الحرية وفرص التعليم وفرص العمل وغيرها، ''إنّ الصناعة التي هي التجلي المادي للعلم والتكنولوجيا، شأنها شأن رأس المال تنزع بتلقائية وبقوة الدفع الذاتي إلى التراكم والتطور المطرد المتسارع بفضل تراكم الجديد من المبتكرات العلمية والتقنية. وهكذا يشهد عصر الصناعة تطورا سريعا متلاحقا، وتحولا ثوريا من إنتاج علمي إلى آخر، وأصبح الإنتاج معتمدا على قدر أكبر من المعلومات، التي تتزايد بصورة أُسّية حتى أصبحنا في عصر تفجّر المعلومات''. صحيح أن حضارة الصناعة تتميز عن حضارات غير الصناعة بعدة مميزات، لأنها تستفيد من التجارب السابقة جميعها، ولأنها تقوم على التصنيع الذي تتطلبه جميع قطاعات الحياة، ولأنها تعطي فرصة للتجديد والتغيّر في المنتج الصناعي الذي يتحول باستمرار نحو الأحسن والأفضل، ولأنها تشكل شبكة علاقات اجتماعية واقتصادية وثقافية أوسع وأعم وأشمل من تلك التي تكونها حضارة الرعي أو الزراعة، والحضارات التي سبقت الحضارة الصناعية لم تظهر إلاّ بعدما توافرت شروطها ولوازمها واكتمل نضجها، ولولا الحضارات السابقة ما عرف الإنسان الحضارة الصناعية، والحضارة مهما كان طابعها فهي حضارة الإنسان، والإنسان ليس كائنا بيولوجيا فحسب، لو كان كذلك ما عرف التحضر، لكنه كائن واعي وعاقل ومفكر واجتماعي، وجوده بهذه الصورة يستدعي النظر إليه والتعامل معه وفق متطلبات هذا الوجود، فالجانب البيولوجي الحيواني في الإنسان ليس الوحيد الذي يحكم حياته حتى تقوم حضارة برمتها على الاهتمام بهذا الجانب على حساب الجوانب الأخرى، فتحاول أن تحوله إلى ظاهرة بيولوجية بحتة أو تتعامل معه كآلة ميكانيكية، وتحاول أن تقضي فيه على الجانب الواعي الشعوري المفكر والاجتماعي والأخلاقي، والإنسان كونه كائنا متميزا عن الظواهر الأخرى في الطبيعة وعما صنعته يده، ذلك ما أهلّه لبناء المجتمع وإنتاج العلم والمعرفة وتأسيس الحضارة على القطف أو على الرعي أو على الصيد أو على الزراعة أو على الصناعة، حضارة الصناعة التي انقلبت على الإنسان وعلى ذاتها لتقضي على القيّم الروحية والمشاعر الإنسانية وعلى العواطف الوجدانية وعلى القيم الأخلاقية الدينية، القيم التي كثيرا ما كانت بذورا في أرض جدباء أنبتت ثقافات وأفكارا وحضارات راقية في الجانب النظري والجانب العملي معا، وكانت هذه الحضارات منابع وروافد للحضارات التي جاءت بعدها، وفي صلة الحضارة الإسلامية بالحضارة الغربية الحديثة خير دليل على ذلك، ومن جانب آخر فإن الحضارة الصناعية ويدافع الكثير عن طابعها المادي العلماني الإبداعي، ويفخر بلا نمطيتها، في حين أن الطابع العلماني المادي يمثل النموذج الأوحد الذي تقدمه العولمة على أنه النمط الوحيد الذي يعكس التوجه الليبرالي الغربي الأمريكي المراد تعميم استعماله من قبل كافة شعوب العالم، والقيم الأخلاقية والدينية والروحية التي تحاربها حضارة الصناعة هي التي كانت وراء قيامها، فالإصلاح الديني والسياسي والتربوي والتنوير والعقلانية والحرية والتعددية والعلمية والعلمانية توجه وقنبلة في وجه جبروت الكنيسة وطغيانها، كل هذه قيم عليا ومبادئ سامية روحية صنعت الوعي التاريخي المادي والروحي، والإنسان مركب من وعي ومادة وصلة تجمع بينهما، الوعي بما تتطلبه حياة الإنسان المادية والاجتماعية والروحية، وانقلاب الحضارة الصناعية على القيم التي تأسست عليها لا ينقص من قيمة القيم، بل يضر بالمسار الحضاري الإنساني، المسار الذي يصادف مشكلات وصعوبات يكون الإنسان ضحيتها، وضحية الحضارة الصناعية المعاصرة إنسان امتلك كل شيء ونسي كل شيء ومات من التخمة، وإنسان فقد كل شيء ومات جوعا، وآخرون مازالوا يعانون ويلات الحروب والاحتلال وغيرهم يكابدون في معارك الفقر والجهل والمرض. إن إيديولوجية العولمة تتأثر فيها فلسفة الاقتصاد وتنظيمه وآلياته بالتوجه الليبرالي الديمقراطي، الأمر الذي أثبت حسب دعاة العولمة فعالية ونجاعة النظام الرأسمالي بالمقارنة مع التنظيم الاقتصادي الموجه، من حيث التطور الصناعي والإنتاجي أو من حيث مواكبة التحولات والتغيرات المتسارعة التي تشهدها الساحة الدولية المعاصرة، تقوم الرأسمالية الحديثة على ''قانون التطور غير المتكافئ، الذي صاغ مفهومه ''هربارت سبنسر'' في القرن التاسع عشر، وما يدعي برأسمالية البقاء للأصلح، حيث من واجب القوي دفع الضعيف نحو الانقراض، إن هذا هو نفس قانون العولمة الاقتصادية، ذلك الكائن الاقتصادي الذي يزيح عن طريقه ويقتلع كل المعوقات، وفي مقدمتها الخصائص الاقتصادية والأيديولوجية دون مواربة، التي تميز دول الإخفاق. إنها الداروينية الاقتصادية التي تتسرب بهدوء إلى أجسام الاقتصاديات المغايرة، الأمر الذي يقودنا منطقيا إلى أن العولمة الاقتصادية لازمة ونتيجة لتفتت الديمقراطية ومفارقتها لجوهرها في تيهها الأنجلوسكسوني أو الهوس الأنجلوأمريكي عبر عن ذلك ''جيمس فالوز'' في كتابه ''النظر إلى الشمس''، الوثيقة التي بموجبها تسنى للرأسمالية أن تضفي ما تشاء من معان على الديمقراطية التي أصبحت تعني وحسب إفساح المجال لسيادة منطق السوق''. للموضوع إحالات