بقلم: ياسر عبد العزيز * لا يكاد يوم يمر منذ إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية في مصر دون أن تسمع تحليلاً، أو تقرأ مقالاً، أو تتابع تظاهرة تحذر من (أخونة الدولة)، وتندد بمحاولات جماعة (الإخوان المسلمين) ابتلاع البلاد، لكن أحداً في ما أظن، لم يطرح التساؤل عما إذا كان من الممكن أن يحدث العكس... أي أن تبتلع الدولة (الإخوان). فهل يمكن حقاً أن تبتلع الدولة المصرية العريقة جماعة (الإخوان)؟ في الوقت الذي كان آلاف المصريين من معارضي (الجماعة) يتظاهرون فيه في ميادين مختلفة، تحت شعار (مصر ليست عزبة)، كانت الأخبار تترى، والانتقادات تتوالى إثر كشف الصحافة الإسرائيلية عن خطاب أرسله الرئيس مرسي لنظيره الإسرائيلي شمعون بيريز، في يوليو الماضي، لتعيين سفير مصري في تل أبيب، وهو الخطاب الذي وصف فيه الرئيس المصري نظيره الإسرائيلي ب(الصديق العزيز)، معرباً فيه عن تمنياته بتعزيز العلاقات بين (البلدين الصديقين). كان الخطاب ممتلئاً بعبارات الود الفائض، والتي لا يتم تبادلها أبداً سوى بين (الأصدقاء المخلصين)، ولا تعكس سوى (علاقات ثنائية متينة)؛ وهو الأمر الذي فسّرته الرئاسة لاحقاً بأنه (مجرد خطاب بروتوكولي)، متذرعة بأن (مثل تلك الخطابات تكتب بصيغة واحدة، ويتم تعميمها أياً كانت الدولة التي ترسل إليها). سيمكن تفهم ذلك التبرير بالطبع، إذ ينطوي على حجة تبدو مقنعة، لكن ما يصعب الأمور في ذلك الصدد، أن خطاباً مماثلاً كشفت عنه الصحافة الإسرائيلية أيضاً، قبل نحو ثلاثة شهور، كان يحوي شكراً من مرسي لبيريز، رداً على برقية تهنئة بعثها الأخير للأول غداة انتخابه رئيساً، وهو الخطاب الذي تلعثمت الرئاسة المصرية حين سئلت عنه، وراحت تراوغ كثيراً، قبل أن تعترف بصحته. ليس الأمر مقتصراً على (الخطابات الرقيقة الدافئة المتبادلة) فقط، ولكن الرئيس مرسي أكد مراراً التزام مصر بكافة المعاهدات الدولية التي وقعتها سابقاً، والناطق باسمه أكد أن مصر تعترف بإسرائيل (طالما تتبادلان التمثيل الدبلوماسي وتمارسان العلاقات الثنائية). خلاصة الأمر أن (العلاقات المصرية - الإسرائيلية في عهد مرسي تظل كما كانت عليه في عهد مبارك)، وحتى عندما تحدث أحد مستشاري الرئيس، وهو ناشط قومي من الفاعلين في مناهضة الدولة العبرية، عن مطالبة مصرية ب(تعديل اتفاقية السلام) بين البلدين، خرج الناطق الرسمي باسم الرئاسة ليؤكد أن (المستشار الرئاسي لا يعبر عن رأي الرئاسة). ليست مشكلة (خطاب بيريز) هي المشكلة الوحيدة التي يواجه مرسي ومساعدوه تداعياتها الآن، فما زالت تداعيات مشكلة محاولة (إقصاء) النائب العام عن منصبه تتفاعل. حاول مرسي إبعاد النائب العام عن منصبه الأسبوع الماضي، وتعيينه في منصب سفير لدى الفاتيكان، لكن هذا الأخير رفض بشدة، معلناً تمسكه بمنصبه، المحصن من العزل وفق القانون، وهو الأمر الذي أدى بمرسي إلى التراجع عن القرار. تراجع مرسي إذن عن قرار رئاسي بتعيين النائب العام سفيراً لدى الفاتيكان، بما يعني إقصاءه من منصبه، في واقعة هي الثالثة على التوالي من نوعها. فقد سبق أن تراجع الرئيس مرتين عن قرارات ذات صبغة قانونية؛ مرة حينما رضخ للإعلان الدستوري المكمل، الذي تم إلغاؤه لاحقاً، واضطر للإدلاء بالقسم الدستورية، غداة انتخابه رئيساً، أمام المحكمة الدستورية العليا على خلاف رغبته ورغبة جماعة (الإخوان)، ومرة ثانية حين تراجع عن قرار (متسرع) بعدم الاعتداد بحل مجلس الشعب (البرلمان)، وعودته إلى ممارسة عمله، بالمخالفة لحكم المحكمة الدستورية الذي اعتبر هذا المجلس (منعدماً). لا تقتصر المسألة على القرارات التي يتخذها الرئيس، أو المهام البروتوكولية، أو التصريحات المتعلقة بالسياسة الخارجية فقط، لكنها تمتد أيضاً لتشمل الاعتبارات التاريخية والثارات الخاصة بجماعة (الإخوان المسلمين). فقد فاجأ الرئيس مرسي المصريين في خطابه الذي ألقاه بمناسبة انتخابه رئيساً مطلع شهر يوليو الفائت، في ميدان التحرير، بالقول: (الستينيات وما أدراك ما الستينيات)، في إشارة فهمها المصريون سريعاً على أنها انتقاد مبطن للزعيم الراحل جمال عبدالناصر، وغمز من قناة ثورة يوليو ودولتها، التي اتخذت إجراءات عنيفة (بحق جماعة الإخوان المسلمين). لكن مرسي عاد سريعاً عن هذا الموقف العدائي والناقد لفترة الستينيات وزعيمها، حين أشاد بدور عبدالناصر في تأسيس منظمة (عدم الانحياز)، خلال إلقائه كلمته في طهران، في المؤتمر الأخير للمنظمة. ليس هذا فقط، لكن السياسات المالية التي تتبعها الدولة المصرية أيضاً بدت عصية على الاختراق أو التغيير من جانب (الجماعة) حين وصلت إلى سدة الحكم، فها هو الرئيس مرسي يمضي قدماً في دعم توجه الحكومة للاقتراض من صندوق النقد الدولي، وحين عارض بعض الإسلاميين هذا الاقتراض باعتباره (ربا) ينهى عنه الإسلام وفق ما يعتقدون، راح الرئيس يبحث عن مخرج يؤمّن له الاقتراض ولا يستفز حلفاءه الأكثر محافظة، واصفاً الفوائد على القرض بأنها مجرد (مصاريف إدارية). الأمر ذاته يتكرر في (الجمعية التأسيسية) المنوط بها كتابة الدستور الجديد للبلاد؛ إذ اضطرت جماعة (الإخوان المسلمين) لمخالفة آراء حلفائها السلفيين أكثر من مرة، مبدية رغبة واضحة في عدم التوسع في (تديين الوثيقة الدستورية) بالشكل الذي يرضي الجماعات الأكثر تشدداً، ومخاطرة في الوقت نفسه بدعم هؤلاء الحلفاء، والكثير من بسطاء الناخبين، عبر تبني أراء أكثر اعتدالاً تجاه بعض المواد الخلافية حول الدور المتصور للشريعة الإسلامية في الدستور والحياة السياسية. ومن ذلك أن جماعة (الإخوان المسلمين) صاحبة الأكثرية في (الجمعية التأسيسية) انتصرت على سبيل المثال لبقاء المادة الثانية من الدستور على الوضع الذي كانت عليه منذ مطلع الثمانينيات الفائتة، دون استجابة لمحاولة السلفيين تغييرها بشكل (يضمن تطبيق الشريعة الإسلامية) على حد قولهم. كما أن (الإخوان) عارضوا كذلك رغبة بعض الأحزاب السلفية إضافة مواد من نوع (السيادة للّه)، أو اعتبار الأزهر الشريف (مرجعية وحيدة) لتفسير أحكام الشريعة وانعكاساتها في القوانين. ثمة الكثير من التصرفات السياسية الصادرة عن جماعة (الإخوان المسلمين) والحكومة ومؤسسة الرئاسة تشير بوضوح إلى أن (اعتبارات الدولة) قد تغلب (رؤى الجماعة). والإشكال الذي سينشأ لاحقاً سيتمثل بانتقادات وهجمات حادة من قبل الحلفاء السلفيين والمتشددين الآخرين، الذين سيسألون (الإخوان): (أين الشريعة؟)، أو (لماذا نقيم علاقات مع إسرائيل؟)، أو (كيف نأكل الربا؟). كما سيظهر الإشكال لدى قواعد الجماعة نفسها، التي ستجد قياداتها تحكم مصر (كما حكمها مبارك)، وفي جمهور (الجماعة) الذي صوّت لها باعتبارها صاحبة شعار (الإسلام هو الحل)، فوجد أنها تتبنى شعار (الدولة هي الحل). فهل سيبتلع (الإخوان) الدولة فعلاً، ويغيرون هويتها وشكلها، ويأخذونها إلى مشروع متكامل جديد، أم أن الدولة ستبتلع (الإخوان)، وتحولهم إلى (تكنوقراط) مثل هؤلاء الذين وظفهم مبارك، باستثناء أنهم (ملتحون)، ويتحدثون برطانة دينية، ويظهرون الحرص على أداء الصلوات؟ وهل يمكن أن تستمر الأوضاع على التخبط والعشوائية الراهنين؟ إنه سؤال كبير، والإجابة عنه لن تحدد مستقبل الدولة المصرية فقط، ولكنها ستحدد مستقبل الإسلاميين في حكم بلدان تلك المنطقة أيضاً.