بقلم: الدكتور كمال الهلباوي بعيداً عن الكوارث الاقتصادية والسياسية التي تمر بها مصر اليوم، فإن الانقلاب الإعلامي في الصحف القومية في التوجهات والتحليلات، فاجأنا بقدر غير يسير من النفاق محافظة على المسيرة ومسايرة لكل العهود والأذواق والألوان. لم يخجل الأهرام ولا القائمون على أمره بعد الثورة أن يذكر يوم الأربعاء 2 جانفي 2013- في العنوان الرئيسي في الصفحة الأولى- بأن القيمة الادخارية للجنيه المصري أعلى من الدولار. قد يكون هذا صحيحاً وفق تحليل يفهمه الاقتصاديون أو أهل البنوك، ولكن المواطن العادي لا يقبل هذه اللغة ولا هذه التحليلات، ولا يقبل إلا أن تظل قيمة الجنيه المصري ثابتة أمام الدولار والأسترليني، وأن تظل الأسعار ثابتة، وهو ما وقع عكسه تماماً، وسينعكس ذلك حتماً حالياً أو لاحقاً على الأقل، على السلع المستوردة وما أكثرها. وقد عبّرت عن هذا كل صحف المعارضة، حيث جاء في الصفحة الأولى في نفس يوم الأربعاء في جريدة اليوم السابع وفي العنوان الرئيسي أيضاً (الغلاء يحاصر المصريين بعد ارتفاع الدولار) هذا على سبيل المثال لا الحصر. كأننا في بلدين مختلفين ولسنا في قطر واحد، أما جريدة الحرية والعدالة فجاء في صفحتها الأولى في اليوم نفسه، بأن (صندوق النقد ملتزم بدعم مصر.. والدولار يستقر عند 6.42 جنيهات). ولا أدري ماذا يجبر صندوق النقد الدولي على أن يلتزم بدعم مصر، ولا ماذا يجبر الدولار على أن يستقر عند رقم معين من قيمة الجنيه المصري. معادلة تحتاج إلى مزيد من الشرح والإقناع. دعنا أيها القارئ من الاقتصاد وهمومه، ولنعد إلى شيء من هموم السياسة، في محاولة جديدة لفهم بعض ما يدور وما يطرح في السوق من تصريحات قد تكون استباقية لأمر جلل، لن تظهره إلا الشفافية المفقودة حينما تعود. جاءت تصريحات الدكتور عصام العريان بشأن اليهود صادمة في ضوء تاريخه المتميز في الحركة الوطنية والإسلامية منذ السبعينات، وإسهامه مع آخرين في إحياء مفاهيم الحركة الإسلامية الوسطية، وتجديد دعوة الإخوان المسلمين وسط الشباب المتخبط آنئذ، وخاصة أن الدكتور العريان يشغل مراكز سياسية كبيرة ومهمة في مصر اليوم، وليست مراكز أو مهام في نطاق الدعوة فقط. وفي عهد عبدالناصر الذي أشار إليه أو لمزه العريان في تصريحاته، وبعيداً عن الظلم الكبير الذي وقع على الإخوان المسلمين آنئذ، لم يكن أحد في مصر ولا غيرها، يستطيع أن يذكر كلمة (إسرائيل) إلا خلسة أو خجلاً، وإن ذكرت فمشفوعة بالعدوان والاحتلال والإجرام. ورغم هزائم مصر العسكرية غير المبررة في عهد عبدالناصر أمام التآمر العالمي، والدعم الكامل لإسرائيل، إلا أنها-أي مصر-كانت تسير في طريق المقاومة للاحتلال الصهيوني، وكانت تجر العالم العربي وجزءاً كبيراً من أفريقيا وآسيا وراءها، ولم يكن هناك قبول للأوضاع المهينة التي قبلتها مصر بعد حرب أكتوبر وانتصار 1973 على إسرائيل، حيث بدأت الهزيمة والتآمر أثناء الحرب وبعده مباشرة. وقد شاهدنا بكل حسرة وألم وندم، المحادثات- بعد الانتصار- عند الكيلو 101 غرب القناة، وليس في شرقها، كما كان ينبغي أن يكون في حالة الانتصار، ثم شاهدنا زيارة السادات وسنظل نعاني منها حتى تهلك أو تعدل بشكل مقبول، وشاهدنا على أثر ذلك تفكك العرب وتفرقهم إلى فسطاطين ثم ثلاثة ثم عشرة، بعد انفراط العقد وضياع نتائج الاتفاقيات العربية التي كانت حقيقة تهدد احتلال إسرائيل لفلسطين وعدوانها وتقض مضجعهم، وبالذات اتفاقية الدفاع العربي المشترك واتفاقية الخرطوم التي تعرف باللاءات الثلاث، لا للتفاوض، لا للصلح، وكذلك لا للاعتراف. وقد أصبحت اللاءات (نعم) وصارت واقعاً مؤلماً كلها اليوم. ولربما فهم أو أدرك بعضنا مبكراً أنه من أسباب الحرب اليوم على سوريا أو الثورة فيها رغم عدالتها واستحقاقها للدعم، ذلك الموقف الممانع من إسرائيل والهيمنة الغربية سابقاً، الذي تمثل في الالتزام- في الغالب- بتلك الاتفاقيات العربية من دون معظم الدول العربية، رغم فساد النظام السوري وإجرامه في حق الإخوان المسلمين والمعارضة أيام الأسد الأب، وفي حق الوطن كله والشعب السوري اليوم في عهد الإبن، الذي أفسد أكثر من أبيه المخضرم. أقول هذا رغم الاختلاف في التأويل والتفسير للأوضاع في سوريا منذ وقت مبكر. وأنا متأكد تماماً أن الدكتور العريان، كان يقف دائماً في صف المقاومة للعدوان الإسرائيلي على فلسطين والأمة بقناعة منه، واتساقا مع موقف الحركة الوطنية والإسلامية عموماً، وأنه كان ضد زيارة السادات التي زعم أنها للقدس واتفاقية كامب ديفيد المشؤومة. لربما كانت تصريحات العريان مقبولة لو كان حق العودة مكفولاً للجميع، وأن يكون ذلك الحق قائماً للفلسطينيين جميعاً أولئك الذين هاجروا وأجبروا على الهجرة منذ حرب 1948، وبشرط ألا يتآمر اليهود الصهاينة على البلاد التي يعودون إليها، لأن الفلسطينيين لم يتآمروا يوماً ما على الأقليات بما فيهم اليهود الذين عاشوا في فلسطين ومصر كأفضل من المواطنين الآخرين، ولكنهم أي اليهود العرب أو معظمهم قد تصهينوا أو أصبحت إسرائيل في دمهم، وخصوصاً بعد الإعلان عن يهودية الدولة والتآمر لطرد عرب 1948 أو عرب الخط الأخضر، خارج حدود دولة فلسطين التي تسمى اليوم ظلماً وعدواناً وغدراً بإسرائيل. وفق تصريحات العريان التي لا ندري لها سبباً أو مناسبة، وهو أمر غير معقول، فكم رأينا التآمر من جواسيسهم. ولو حدث ذلك وكانت العودة كاملة يظل الاحتلال لفلسطين- في يقيني قائماً- وتظل (إسرائيل) دولة طارئة محتلة لبلادنا ومقدساتنا التي يجب أن ندافع عنها لتحريرها كاملاً. والأمم المتحدة لا تستطيع تغييراً للواقع. فكما يعلم العريان أن المقدسات لا تباع ولا تشترى، ولا تترك للمحتلين، وإلا نكون قد أقررنا المغتصب على ما اغتصبه، والمعتدي على عدوانه، وهو مالا يقبله عقل ولا شرع، ولم تقبله الحركة الإسلامية في يوم من الأيام-على الأقل في مصر والعالم العربي حتى اليوم- بل لم يستطع أحد أن يثيره على أي مستوى في الحركة الإسلامية إلا أيام الرئيس مرسي ومكتب الإرشاد الحالي الذي كان د. عصام العريان عضواً فيه قبل أن يصبح نائباً لرئيس حزب الحرية والعدالة (الإسلامي). وكان يطمح العريان أن يكون رئيساً للحزب في تنافسه مع الكتاتني، ولا أدري إن كانت تصريحات العريان عن جهل، وهو الرجل المتعلم والمثقف والذي تربى في دعوة الإخوان وعمل في صفوف القيادة طويلاً، أم أنها عن سياسة وهذا هو الخراب بعينه. فالسياسة في الإسلام تدور في فلك الحق والعدل والمساواة والشورى، ولا تدور في فلك النفاق العالمي أو قبول الهيمنة والاحتلال حتى لأراضي الغير بالقوة، سواء كان هذا الغير مسلماً أو غير مسلم، لأننا نقرأ ونفهم يقيناً معنى قوله تعالى (وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ) وندرك معنى قوله تعالى(لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ). أنا لا أقول إن التصريحات تدل على الموالاة أبداً لليهود، ولكنني أقول إن التصريحات خطأ فادح في حق مصر وفلسطين والقضية أولاً وأخيراً. هل يستنكر الإخوان تصريحات العريان؟ وهل يستنكر حزب الحرية والعدالة تصريحات العريان؟ هل يتبرأ الرئيس مرسي من تصريحات العريان وهو مستشار الرئيس وعضو فاعل في الدستورية وعضو فاعل في الشورى كذلك؟ وهل تستنكر الشورى تلك التصريحات وتتبرأ منها أم أنهم مضطرون للقبول تحت أي ظروف وضغوط، وفق التأويل الخاطئ للقواعد الكلية والأصولية والفقهية ومنها (الضرورات تبيح المحظورات). هناك-للأسف الشديد- من يحاول أن يخدع في السياسة كما كان هناك دائماً من يخدع في الدين، فيحاول جاهداً أمام العجز وصعوبة العمل الجاد أن يهيئ ضرورات- تبيح له في ظل العجز أياً كان نوعه- أن يحتمي بالضرورات التي هيأها لنفسه وأن يستخدم المحظورات. ولكن الشروط في استخدام هذه القاعدة العظيمة التي جاءت للتيسير بعد استنفاد الجهد اللازم، تفضح من يحاول سوء التأويل أو الاستخدام قبل توفر الشروط المطلوبة كاملة. الأمة في حالة حساسة، وهي في غنى عن التخبط الذي عانت الأمة منه طويلاً، وكانت تتوق إلى استقرار في ضوء وصول الإخوان للسلطة بعد ثورة حضارية عظيمة لا تقبل تصريحات العريان أو من كان على هذه الشاكلة على أي حال أو تأويل، ومهما كان موقعه في العمل السياسي أما فلسطين وما يتعلق بها أو يؤثر فيها، فهي من القضايا المركزية للأمة كلها، ولا يملك جيل من الأجيال مهما كان ضعيفاً، أن يفرط فيها أو يتنازل عن جزء من ترابها.