العرب يتآمرون أو يتفرجون سوريا.. مأساة شعب يُذبح جهارا مضت أشهر وأشهر على الحراك الشعبي في سوريا، بقيت عواصم القرار شبه غائبة عن الساحة السورية، وتتعامل مع التظاهرات الجماهيرية التي عمّت المدن السورية، بأُذن من طين، وأُذن من عجين! بدأ الضحايا يسقطون بالمئات يومياً، والنازحون يلجأون بالألوف إلى دول الجوار، وكتلة الحديد والنار تكبر وتهدم وتقتل، وما يسمى (المجتمع الدولي) يكتفي بالإدانات الكلامية، أما العرب، فإما يتآمرون، وإما يتفرجون. وبينما بات الشعب السوري يُذبح على الملأ جهارا نهارا، بقيت اجتماعات دول (أصدقاء سوريا) مجرّد لقاءات للحناجر والطناجر!.. أي للخطابات الإنشائية، والموائد الدسمة. فيما مئات الألوف من السوريين الأبرياء، ومعظمهم من النساء والأطفال، يبيتون في مخيمات لا تصلح زرائب للحيوانات! حتى اتفاق جنيف بقي حبراً على ورق. واختلف صاحباه الأمريكي والروسي على تفسير بعض بنوده، وعلى تحديد بعض تطبيقاته! بالأمس (بشّرنا) الوزير الأمريكي جون كيري و(صديقه) الروسي سيرغي لافروف بالوصول إلى اتفاق يقضي بعقد مؤتمر دولي يجمع النظام والمعارضة، توصلاً لحل سياسي حاسم للأزمة السورية المتفاقمة. لا ندري كم سيصمد كلام الاتفاق الأمريكي - الروسي، وعما إذا كانت بعض العبارات الغامضة فيه ستؤدي إلى تعطيله، والحؤول دون الوصول إلى شاطئ الحل السياسي، وحقن دماء من بقي من السوريين، بعدما تجاوز عدد الضحايا المعلن المائة ألف قتيل وأكثر من ثلاثمائة ألف جريح، وعشرات الآلاف من المفقودين، فضلاً عن خمسة ملايين مواطن سوري لحقتهم لعنة التهجير بين مناطق الداخل، أو على الحدود مع دول الجوار! بغض النظر عن التداخلات الإقليمية والدولية الحاصلة على الساحة السورية والتي حوّلت الثورة الشعبية إلى حرب عالمية بين المتنافسين الكبار، فإن مأساة الشعب السوري، وما يعانيه من دمار وخراب، ومن مجازر ومعارك إبادة، وحروب تطهير عرقي وديني... ومن مشاهد إذلال ودوس على الكرامات الإنسانية، ستبقى وصمة عار على جبين المجتمع الدولي، وتحمل أكثر من صرخة تحدٍ للشعارات التي تتشدق بها المنظمات الدولية، بالنسبة لحقوق الإنسان، والحفاظ على سلامة الحيوان، وتشجيع مشاركات المجتمع المدني في الحياة السياسية والاجتماعية... إلى آخر المعزوفة التي لا يخدم سماعها إلا الذين يقبعون في المكاتب الأممية المكيّفة، ويستهلكون ثلاثة أرباع المساعدات بدل تجهيزات ورواتب، ويتركون الفتات للغلابى المنكوبين! مأساة الطفولة في المشهد السوري طفلٌ سوريٌّ مَحْمُولٌ على الأكتاف يهتفُ بعبارات التهديد والوعيد بالقتل. طفلٌ ثانٍ يَرْوي على أسماعنا، في تَمَاسُكٍ مُدْهِشٍ وسَرْدٍ رهيبٍ ودموعٍ مَكْبُوتَةٍ، كيف تَحَوَّلَ أفراد عائلته إلى مُجَرَّدِ أشلاء. وثالثٌ يعمل مُمَرِّضاً ومساعداً طبياً في عمليات بَتْرِ الأطراف في مشفىً ميدانيٍّ مُهَدَّدٍ بالقصف في أيِّ لحظة. وطفلٌ آخر يرتدي أمشاط الرصاص، ويحمل سلاحاً أطول من قامته الغَضّة، وفي يمينه سيجارةٌ يدخّنها، لتَتَصَدَّرَ صُورَتُه صفحات الجرائد الأجنبية. تَخْلُو الصور ومقاطع الفيديو المَذْكُورة من مشاهدِ الموتِ الفَجِّ، إلا أنها تعبقُ بالموت المُضْمَرِ، في أقسى مشاهِدِه المُتَخَيَّلَة، مع قاسمٍ مُشْتَرَكٍ يجعلها استمراراً تراجيدياً لأطفال درعا: الاستباحة الهَمَجِيّة والأليمة ل (الطفل السوري)، الذي انْتُزِعَ من المدرسة وباحة اللعب وأقلام التلوين، ليُرْمَى به وسط هذا الجحيم الأرضي. فأيُّ طفولةٍ تلك التي تُحْرَمُ من أبسط مُقَوِّمَاتِ الطفولة؟ في هذا السياق، أصْدَرَتِ (يونيسيف) في مارس 2013، تقريراً حَمَلَ عنوان (أطفال سورية: جيلٌ ضائع). يسردُ التقرير توَزُّعَ الأطفال في المناطق الساخنة ودول الجوار، مع عَرْضٍ لأوضاعهم العامة والصحية، وتعدادٍ ل (إنجازات) المنظمات الدولية في استجابتها الباهتة للأزمة الإنسانية التي تعاني منها سورية. كما يحفل التقرير بكثيرٍ من الإحصائيات المؤلمة، مُشِيراً، على سبيل المثال، إلى أن الأطفال يُشَكِّلُون 50 في المئة من اللاجئين السوريين خارج البلاد، وأن مليونين من الأطفال في حاجةٍ إلى مساعداتٍ عَاجِلَةٍ تبلغ نفقاتها حدود 200 مليون دولار (تَمَّ تأمينُ خُمْسِها فقط!). يُعْتَبَرُ الأطفالُ عُرْضَةً لكل أشكال الاستغلال المادي-الجسدي، خصوصاً في سياق العنف والفوضى. وفي ظلِّ الاقتتال المُسْتَعِرِ في سورية، والخراب الذي طَاولَ المناطق السكنية في المدن والبلدات والقرى (منها ما سُوِّيَ بالأرض)، بلغ عدد الضحايا من الأطفال ما يزيد على ستة آلاف، عدا عشرات الآلاف من الجرحى والمصابين. وفي أعنف الأشكال الراديكاليَّة، يغدو الطفل أداةً وجزءاً من الصراع العنفي، إنْ على مستوى التجنيد كعنصرٍ مقاتلٍ مُقْبِلٍ على الفناء على خطوط (الجبهة)، أو على مستوى (الجسد) المُسْتَبَاح أولاً بالقتل، والمُسْتَبَاح تالياً بالحَمْل على الأكُف، في فعلٍ استعراضيٍّ فظيعٍ يتكاملُ مع فظاعة الموت، وكأن وحشيّة قاتل الطفل لا يُمْكِنها أن تتجلّى إلا عبر العرض الوحشي لجسد الطفل-الضحية. أما الأطفال الناجون من الموت، ومن وحشية تجار الحروب، فسوف (يعيشون) في ظلِّ الفقر والتشريد، مع حرمانٍ شبه كاملٍ من الرعاية الصحية، والتغذية المتوازنة، وغيرها من المستلزمات الأساسية للحياة والنمو السليم. المطلوب إيجاد حلٍّ جذريٍّ للأزمة يجب التوقف عند عُمْقِ الرضوض المعنوية-النفسية التي تتركُ آثارها في ذهنية الطفل وتحفر في ذاكرته. فالطفل السوري ينام ويستيقظ على وَقْع أصوات الرصاص والمدافع والمفخخات والصواريخ، وعلى مشاهد الدم المَعْروضة على الشاشات. ومع تزايد عدد الأيتام الذين فقدوا الأهل، يزداد العبء النفسي الناجم عن الحرمان العاطفي وفقدان الشعور بالأمان. تُضافُ إلى ما سَبَقَ فجوةٌ عميقةٌ على مستوى التحصيل المعرفي بعد تَشَتُّتِ الكادر التعليمي، وتدمير آلاف المدارس، أو تحويلها إلى مقار للنازحين أو حملة السلاح أو للاعتقال والتعذيب. وبَرَزَتْ أخيراً، في الشمال السوري، ظاهرةُ المدارس التي تتبنّى قراءةً متعصبةً للفكر الديني، وتُطَبِّقُ مناهج مؤدلجةً (قد لا تختلف كثيراً، من ناحية المبدأ، عن المناهج الإيديولوجية البعثية التي كانتْ تُدَرَّسُ على مدى عقود). كما يجب ألا نُقَلِّلَ من شأن الأحقاد التي يَسْكُبُها (الكبار) سَكْباً، على مستوى الحوارات اليومية، في مسامع الأطفال وأبصارهم وقلوبهم، كأن هؤلاء (الكبار) لا يَكْتَفُون بالفظاعات التي يَرْتَكِبُونَها، بل يُصِرُّون على توريثِ الأطفالِ أمراضَهم ومآلاتِ عنفهم. ولعلّ من النافِلِ القولُ إن المأساة مضاعفةٌ عند الأطفال المُنْحَدِرِين أصلاً من خلفيةٍ اجتماعيةٍ مُهَمَّشَةٍ، ما يُعَمِّقُ المعاناة واللامساواة المُسْتَفْحِلَة في (المجتمع السوري). وفي سياق جمودٍ فكريٍّ ومؤسساتيٍّ يُخَيِّمُ على المنطقة، تُعِيرُ قِلّةٌ من السوريين بالاً للآثار التي يتركها الصراع العنفي على الأطفال. ففي سورية جيلٌ مُثْقَلٌ بالرضوض النفسية والملوثات الفكرية، مع هُوَّةٍ أليمةٍ تتسع يومياً على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والمعرفي. ومع ذلك، لا نجد، بعد عامَيْن، حِراكاً مَدَنِيَّاً متناسباً مع حجم الكارثة. نَلْحَظُ هذا التقصير على مستوى المبادرات الدولية والإقليمية، أو على مستوى المبادرات السورية، سواء في مخيمات اللاجئين خارج سورية، أو في الداخل السوري، حيث تكاد هذه المبادرات أن تكون شبه غائبةٍ، وإن وُجِدَتْ فمعظمها لا يَتَّصِفُ بالجدِّية، أو يميل إلى مُجَرَّدِ الاستعراض، أو المُسَاوَمَة على الولاءات. لا خلاف على أن أفضل استجابةٍ لهذا الوضع الكارثي هي في إيجاد حلٍّ جذريٍّ للأزمة، لا الاكتفاء بتجميلها (إنسانياً) في صورة إغاثيةٍ عبر مساعداتٍ من هنا وتبرعاتٍ من هناك. وأخيراً، على كلِّ حريصٍ على سورية أن يتذكر أن استباحةَ الأطفال استباحةٌ للجيل الصاعد في سورية، استباحةٌ تَذْبَحُ بصَمْتٍ مستقبلَ وطنٍ يبحثُ عَبَثاً عن مستقبل.