نقلت الوقائع عن المشهد السوري أول هذا الأسبوع مشاهد مرعبة أقل ما يقال عنها أنها تجاوزت حدود العقل، خاصة وأنها حدثت بعد أن لامس عدد ضحايا الحراك الثوري في سوريا الحبيبة حتى الساعة سقف العشرة آلاف، وإذا أضفنا لهؤلاء حالات الجرحى والمفقودين واللاجئين لدول الجوار واللاجئين لدول أخرى، فإن الرقم يقترب من حالة المأساة الانسانية التي أصبح مؤكدا أن لها انعكاسات خطيرة على مستقبل البلاد وخاصة المستقبل الاقتصادي. يأتي هذا مقابل مأساة أخرى اقتنص فيها العدو الصهيوني ظروف المشهد السوري كي ينفذ عمليات '' ارهاب '' جديدة ضد الفلسطينيين في شمال وجنوب غزة، وكأن تناغما مقصودا يجري الاعداد له على الأرض بين اللاعبين الفعليين في المنطقة.النظام السوري الرسمي الذي مازال يقابل احتجاجات واعتصامات ومسيرات السكان بالقصف الذي لم يدخر استخدام السلاح الممنوع إنسانيا وقانونيا في مثل هذه الحالات يعمل في أجواء دولية توصف بغير الحاسمة وغير الفعالة مادامت المواقف بين الدول الكبرى تخضع لمعايير المصلحة الاستراتيجية وتقاسم الأدوار، كما يقع دائما في حال النزاعات. ولكن نفس النظام يصف بعض وسائل الاعلام بالمناوئة وأنها تختلق قصصا فيها خراب البلاد والعباد، وأنها لا تصف الحقيقة كاملة بدليل أن دمشق وهي العاصمة السياسية والتجارية لسوريا تتمتع بالهدوء كله. وفي الطرف الآخر من المعادلة نجد مجتمع المنظمات الخيرية والانسانية - وعلى رأسها كل من الهلال الأحمر الدولي ونظيره الصليب الأحمر تدق - على لسان مسؤوليها الميدانيين - ناقوس الخطر ليس لأن النظام العسكري في سوريا يدك الثائرين دكا ولكن لأن حقوق الانسان السوري في الدواء والغذاء والكساء وحقه في معاملة أسرى الحرب وحقه في اللجوء السياسي وكذا حقوق الجرحى ثم حقوق الطفل والمرأة، كلها باتت في دائرة الخطر بل الخطر الشديد. الصور المسربة من الداخل السوري لا يشبهها شيء سوى ما قرأناه ونقرأه عن حملات التتار بقيادة المغول على بغداد وغيرها من البلاد الآسيوية في القرن الثالث عشر الميلادي، ومهما بلغ استغلال الصورة من الأطراف المعادية للنظام السوري الرسمي، إلا أن الوضع على الأرض وحجم المأساة الانسانية في زهرة الشام لا تتيح لنا وقتا طويلا لاختبار صدقية الصورة ولا تبرر بأي حجة من الحجج حالة الصمت العربي العريض. الخيارات الدولية تقع سوريا على خط التماس بين جناحي النظام الدولي المعاصر أي الشرق والغرب ولا تزال ساحة لاختبار خيارات ذلك النظام في موقفه من '' إسرائيل '' الذراع الاستراتيجي لأمريكا. وهي بذلك تشكل ملتقى المصالح المتناقضة، كما يبدو، لكنها متكاملة بما أنها تضمن التوازن الاستراتيجي في منطقة تختزن النفط بنسبة احتياطي قدرها 70 بالمائة من مخزون العالم، وتختزن النووي في موقعين متناقضين هما طهران وتل أبيب، سوريا أيضا تعني مصالح روسيا في تجارة السلاح وتعني الصين في الاستثمار العابر للحدود والدبلوماسية التجارية. في هذه الخارطة الجيوستراتيجية يسهل على مصممي السياسات في العالم ممارسة التفاوض على سلم الهيمنة. والذي يؤسف له أن تفاوضا كهذا لا يعير كبير عناية للانسان من حيث قيمته الاجتماعية والنفسية وهو ما يفسر لنا مشهد عدم الحسم بل عدم الاكتراث للجوانب الانسانية في المأساة السورية من قبل النظام الدولي. وحتى من قبل الجيش السوري، فإن معادلة تشكله لا تسمح بهامش مناورة كبير للتأثير على الأحداث بشكل مختلف عن إرادة النظام السياسي الحاكم في سوريا عكس المشهد المصري والمشهد في تونس. أما النظام العربي الرسمي، فالجميع يلاحظ ضعفه على التأثير في تطور الأحداث لسببين اثنين هما تراجع النظام الرسمي باعتباره محور النظام العربي تحت ضغط أوضاعه الداخلية، وتشتت الموقف بين الدول الأكثر تأثيرا داخل المجموعة العربية تحت ضغط التبعية للخارج. وهو ما انعكس فعلا على حالة التشتت داخل المعارضة السورية التي ورثت حالة نفسية قارة في الجسم السوري وهي حالة الخلاف على الأدوات الأكثر نجاعة في إدارة الصراع الدائر بين السلطة ولفيف واسع من الشعب. الجزائر على خارطة الإغاثة الإنسانية وأمام هذا المشهد المعقد سياسيا تبرز الحاجة الى تحرك انساني قوي في الوسط الشعبي العربي الذي يظل كما هو في التاريخ الملاذ الأخير لقوى الحق والنضال. تتشكل في سوريا الآن رواسب المأساة من حالات: الأيتام، الأرامل، اللاجئون، الأسرى، جرحى ومعطوبو الحرب، العاطلون عن العمل، المسلحون، وهي نفسها حالات التدخل الانساني. ويستثمر في الواقع الجديد كل اللاعبين في حقل الاغاثة الانسانية من جمعيات مسيحية ومخابر الجوسسة وتجار الموت، ولا يغفر التاريخ للشرفاء من أبناء الأمة العربية والاسلامية تقاعسهم عن إغاثة شعب يموت بشكل لا يتصوره عقل. هناك صمت رهيب لا يملك تفسيرا إزاء المشهد الانساني السوري في العالمين العربي والاسلامي، والمطلوب جزائريا اطلاق هيئة للإغاثة فورا فورا فورا واستغلال ما أمكن استغلاله من مرونة النظام السوري الرسمي تجاه فكرة الممرات الانسانية للمساهمة جزائريا في اسعاف شعب الشام العريق في إسلامه وعروبته. فكرة الاغاثة الانسانية تتجاوز الجوانب الأخلاقية والسياسية بكثير لأنها تلتقي مع القيم الكونية التي يشترك فيها كل من ينتمي الى الانسانية ومنها قيمة حق الانسان على الانسان، فضلا عن حق المسلم على المسلم، ولذا تفهم هذه الفكرة في شروطها الفنية وليس في محتواها الأخلاقي الذي لا جدال فيه. تاريخ البوسنة يعود من الشام ما وقع في البوسنة والهرسك وسط التسعينيات يعلمنا أن المآل في الأخير للحق والخير وإرادة الشعوب، وقد لقي قادة الإبادة في المدن اليوغسلافية - سابقا - مصيرا تاريخيا أسود، وما بقي من مأساة الانسان البوسني المسلم سوى التجربة التاريخية، وعندها سجلت الاغاثة الانسانية نقاطا اضافية وكان للجزائر يومها موقف مشرف رسميا وشعبيا ساهم في بنائه الجميع، وها هو التاريخ يعود من هناك حاملا فرصة تاريخية أخرى لا حق لنا في أن نغمض الأعين عنها. هناك قوافل للاغاثة وصلت لحدود المدن المتضررة مثل حمص ودرعا، وهناك مرونة من الطرفين الروسي والصيني لفتح ممرات انسانية خالية من السلاح، وهناك تحرك دولي من الصليب والأحمر والهلال الأحمر كليهما، وهناك ترقب شعبي جزائري للانخراط في أي مسعى خيري لايصال المساعدات الى الداخل السوري، وهناك الموقف الرسمي للجزائر المناهض للعنف المنسجم مع خيار دعم اختيارات الشعوب في كل العالم. وكلها مؤشرات موضوعية لإطلاق حملة جزائرية واسعة لاحتضان الشعب السوري في مأساته التي جميع الأحرار في العالم يدعون الله كي تنتهي قريبا. فهل نكون في مستوى التاريخ أم أن الصمت العربي سيواصل تمدده في داخلنا.