الظروف مجرد تبرير.. وضعف الإيمان السبب الأول الانتحار.. كابوس يزحف على العائلات الجزائرية بلغ الانتحار في الآونة الأخيرة مستويات غير معقولة وأضحى يمس مختلف الفئات والشرائح العمرية بعد أن كان مقتصرا في الأول على المرضى نفسيا والمختلين عقليا والشبان المدمنين أضحى يمس فئات النسوة والكهول والشيوخ وحتى الأطفال مما ينذر بالخطر، إذ أضحى أسلوبا مختارا لإنهاء حياة البعض، وتتعدد طرقه إلا أن الغاية هي واحدة ويكون إما عن طريق الحرق أو الشنق أو السطو من علو شاهق، لتتراجع الطرق التقليدية الأخرى المتمثلة في شرب المحاليل الحمضية والأدوية، وتعد الظروف الاجتماعية تبريرا جاهزا خصوصا مع البطالة الخانقة وأزمات السكن وحتى انتشار المخدرات بين الشبان كآفة تترتب عنها العديد من الآفات الأخرى، بينما يعد ضعف الإيمان السبب الأول لهذه الظاهرة الدخيلة على المسلمين عموما والجزائريين بوجه خاص. بحيث تجمعت كل تلك الظروف لتولد ظاهرة دخيلة على مجتمعنا ألا وهي ظاهرة الانتحار التي أضحت إحصائياتها تعد بالآلاف بدل المئات، إذ بلغت 1108 حالة في السنة الماضية، وحسب دراسات فإن الانتحار يرتفع بنسبة 10 مرات عند الرجال مقارنة مع النسوة أي بمعدل سبع حالات للانتحار عند الرجال مقابل حالة واحدة عند النسوة، وكان الحرق آخر طريق للانتحار في الجزائر ويليه الشنق أو القفز من علو مرتفع إلى جانب شرب بعض المحاليل الحمضية والأدوية بجرعات متفاوتة. وتعالت الأصوات حول التنامي الخطير للظاهرة من دون الوقوف على مسبباتها، ويبقى للظروف الاجتماعية المزرية الدور الكبير في تفشيها على غرار أزمة السكن وانعدام فرص العمل من دون أن ننسى سياسة الصد ولغة العنف الممارسة بإدارتنا ومؤسساتنا العمومية، والتي كانت في الكثير من المرات سببا دفع بالكثيرين إلى التهديد بالانتحار أو حتى الانتحار فعلا على مستوى البلديات والدوائر الإدارية وغيرها من المؤسسات تعبيرا عن رفض سياسة الحقرة والتهميش الممارسة ببعض الإدارات إن لم نقل أغلبها. وتبقى تلك الأخبار تصل إلى مسامعنا من دون وضع حد لها بعد أن استمرت البيروقراطية والمحسوبية بمؤسساتنا من دون أن ننسى المعاناة التي يتكبدها المرضى بالمستشفيات والتي أدت في الكثير من المرات إلى محاولات انتحار بعد اليأس ومرحلة القنوط الذي لحقت ببعض المرضى. وقد عاش حي المدنية بالعاصمة في الأسبوع الماضي هول فاجعة إقدام شخص في العقد الرابع على الانتحار شنقا وهو الحي الذي لم يكن يشهد مثل تلك الآفات الرهيبة التي باتت تتنقل من ناحية إلى أخرى حتى مست أغلب ولايات الوطن، ونجد أن منطقة تيزي وزو تحتل الصدارة في تلك الحوادث إلى جانب ولاية بجاية. اقتربنا من الطبيبة (ج سليمة) مختصة في علم النفس الاجتماعي واستفسرناها عن العوامل التي أدت إلى اتساع فجوة الانتحار في الجزائر فأوضحت أنه وجب دق ناقوس الخطر حول الظاهرة التي هي في تزايد مستمر وصارت تشترك فيها العديد من العوامل النفسية والاجتماعية ولم تعد الظاهرة منتشرة بين المختلين عقليا أو الذين يعانون من عقد نفسية بل انتقلت العدوى حتى إلى الأشخاص العاديين بفعل الظروف الاجتماعية التي يتخبط فيها أغلب الناس كالبطالة، مشكل السكن، تأخر الزواج، الأزمات العاطفية والمشاكل العائلية، انتشار المخدرات والآفات الأخرى التي اشتركت كلها في إفراز تلك الظاهرة الخطيرة، كون أن كل تلك الضغوط ولدت أمراضا وانهيارات عصبية على غرار الصرع، مرض الاكتئاب الذي فعل فعلته في شريحة لا بأس بها وهو مرض خطير ينعكس على نفسية وسلوكات المصابين به ومن الممكن جدا أن تتبلور في أذهانهم فكرة الانتحار ووضع حد لمعاناتهم النفسية، لذلك وجب الوقوف على مسببات الآفة التي هي في تنام مستمر عن طريق السعي إلى تحسين الظروف الاجتماعية والتحسيس بخطورة الآفة من جميع النواحي الأخلاقية والدينية على حد سواء. إحصائيات مرعبة كشف مختصون أن 150 ألف جزائري يعانون من مرض فصام الشخصية يليه الصرع ب 5210 حالة أي 21.38 بالمائة، ثم الاكتئاب ب 5601 حالة أي ما يعادل نسبة 76.6 بالمائة، ثم الاضطراب العصبي ب 785 حالة أي بنسبة 86.2 بالمائة والمتتبع للإحصائيات التي يدلي بها أخصائيو الصحة النفسية بالجزائر يلاحظ دون عناء أن 10 بالمائة من الجزائريين بحاجة اليوم إلى التكفل النفسي لسبب أو لآخر لتفادي تبلور تلك الأفكار السوداء، هي نسبة قد تكون ضئيلة مع ما نلمسه في الواقع لأشخاص فقدوا جادة الصواب بين ليلة وضحاها بعد أن ضاقت بهم الدنيا، وهو الواقع الذي يدق حوله الخبراء ناقوس الخطر، فمعظم المرضى اليوم سواء كانوا من المصابين بفصام الشخصية الذين يناهز عددهم ال 150 ألف جزائري، أو من مرضى الاكتئاب الذين تعدت نسبتهم 26 بالمائة من مجموع سكان الجزائر هم بحاجة إلى التكفل النفسي والاجتماعي كون أن الظروف أدت إلى اكتساب أمراض مزمنة ولدت بين المصابين حالة الشعور باليأس والقنوط والتفكير في الانتحار، كما تجدر الإشارة أن 5.3 مليون جزائري هم بحاجة إلى التكفل النفسي العاجل، خصوصا وأن الظروف الأمنية التي طغت على العشرية السوداء فعلت فعلتها وأثرت على الكل، وما زاد من بلة الطين الوضع الاجتماعي المزري الذي ساهم في رسم صورة قاتمة لحالة الجزائريين النفسية وهو ما أدى بدوره إلى آفة الانتحار التي تستدعي النظر إلى الظروف الاجتماعية وحتى النفسية حتى أن الوضيعة المزرية للبعض أدت بهم إلى المسارعة إلى أبواب العيادات النفسية بغية الحصول عل مهدئات ومنومات التي تحمل مخاطر على المدى البعيد ومن الممكن جدا أن تصل إلى درجة الإدمان. منهارون اجتماعيا يسردون مآسيهم الإقبال على الانتحار ووضع حد للحياة هو ليس بالأمر السهل إلا أن درجة القنوط التي يكون عليها المقبل على الفعل تجعله مغمض العينين لاسيما بعد تأكد فشله في جميع ميادين الحياة، التقينا بأناس بلغوا درجة اليأس وفكروا مرات في الانتحار بل منهم حتى من جربها إلا أنها باءت بالفشل. الشاب رضا واحد من هؤلاء، الظروف الاجتماعية الصعبة التي كان يمر بها دفعته إلى اختيار أسوء سبيل بحيث وبعد انحرافه المعلن ورفقة السوء راح إلى محاولة الانتحار عدة مرات كانت آخرها بسكب البنزين على جسده إلا أن نجدة أصدقائه بالحي حالت دون إتمام غايته السيئة، إذ قال إن الظروف العائلية والاجتماعية أدت به إلى التفكير في الانتحار مرات عدة، ففي المرة الأولى ضاعف من جرعات الدواء مما جعله يمكث بغرفة الإنعاش شهرين متتاليين وعاود الكرة في المرة الثانية ولم تفلح محاولته. وعن دوافع إقباله على ذلك قال إنه يئس من هذه الحياة بعد وفاة الوالدة وقسوة أبيه الذي عاود الزواج بامرأة متسلطة ومتجبرة بحيث تحرضه دوما على ضربه وتختلق المشاكل بالبيت لأتفه الأسباب، الأمر الذي أدى به إلى التفكير في الانتحار لمرات لتستمر الفكرة في ذهنه مادام أن الظروف المحيطة به لم تتغير. أما فريد في العقد الرابع فقال إن فشله في هذه الحياة أدى به في مرة إلى محاولة الانتحار عن طريق القفز من شرفة المنزل، واختار في المرة الثانية جسرا بالطريق السريع بعد أن أغمضت عيناه ورأى أن شهادة الماجستر لم تفلح لأجل ظفره بعمل، حتى أن الأيام تمضي وتسرع ولم يتمكن حتى من فتح بيت وهو وإلى غاية كتابة هذه السطور لازال يعاني من البطالة، وتساءل كيف له أن يعمل ويكوّن نفسه ويفتح بيتا فالعمر لا يسمح بذلك، هذا في حالة الظفر بعمل في القريب العاجل الأمر الذي أدى به إلى الإصابة بمرض الاكتئاب وتناول الدواء بصفة دورية وملزمة ليمضي نصف عمره في النوم والشرود وحين يصطدم بالواقع يختار الموت والانتحار، إذ أقدم على المحاولة مرتين المرة الأولى بإقدامه على المحاولة بإلقاء نفسه من شرفة المنزل والمرة الثانية بمحاولته القفز من الجسر. وبذلك ألقت المشاكل الاجتماعية بظلالها على هؤلاء وأنستهم في لحظة قنوط أن ديننا الإسلامي الحنيف ينفي نفيا قطعيا قتل النفس التي حرم الله تعالى قتلها إلا بالحق.