الكثير من الجزائريين يرد عليك وهو يستيقظ لتوه من الفراش أنه' كاره'، وهناك من تسمعه في الساعات الأولى للنهار يقول أنه "مديفوتي" أو أنه سيخرج من جلده إلى غيرها من العبارات التي أصبحت تلازم الجزائريين رجالا ونساء شبابا وشيابا، البعض يردها إلى "الشوماج" والبعض الآخر إلى الروتين•• في حين يرجعها بعض العارفين والأخصائيين إلى تداعيات الأزمة الأمنية والاقتصادية التي ألقت بظلالها على نفسية الجزائريين الذين يعانون اليوم من شتى أنواع الأمراض النفسية والعقلية والانهيارات العصبية. لجأت وزارة الصحة إلى وضع برنامج وطني للصحة النفسية يمتد ما بين 2006 و2009 بعد أن اتضح أن 10 بالمائة من الجزائريين بحاجة إلى الرعاية النفسية وأن الفئة الأكثر عرضة لمشاكل الأمراض النفسية والعصبية هي الشريحة العمرية الأقل من 40 سنة من الجنسين، أي من الشباب المحبط الذي عجز عن التأقلم مع أوضاع البلاد وإثبات ذاته حتى لا نقول تحقيق أحلامه لأن ثوب هذه الأخيرة صار فضفاضا أكثر من اللازم على الشباب الجزائري في المناطق الحضرية أو القروية على حد سواء. كما يرى المختصون الجزائريون أن مشاكل الأمراض النفسية والعقلية في تزايد ببلادنا معتمدين في ذلك على الوصفات الطبية في هذا المجال والتي ارتفعت من 640.184 في 2003 و133.162 في 2004 ثم إلى 232.192 في سنة 2005، هذه الأرقام وردت في بيان البرنامج الوطني للصحة العقلية الذي كشف أيضا عن 150 ألف جزائري يعانون من مرض فصام الشخصية وأن الهوس يقف على رأس المشاكل العقلية التي يعاني منها الجزائريون ب 480.13 حالة وهو ما نسبته 24.51 بالمائة، يليه الصرع ب 052.10 حالة وتقدر نسبة الإصابة به 21.38 بالمائة ثم الاكتئاب ب 560.1 حالة ونسبته 76.6 بالمائة، ثم الاضطراب العصبي ب 785 حالة أي بنسبة 86.2 بالمائة• 15 بالمائة من المنتحرين عانوا من انهيارات عصبية أشار تقرير صحي أشرف عليه مختصون في الطب النفسي أن أغلب المنتحرين نشئوا في محيط عائلي مضطرب وأن 15 بالمائة منهم عانوا من انهيارات عصبية خلال العشرية الأخيرة، كما أكد بأن الأزمة الاقتصادية أدت إلى تدهور الصحة النفسية للشباب الجزائري وعلى رأس المشاكل البطالة وتردي القدرة الشرائية، مما سبب الإحباط ل 12 بالمائة من المنتحرين الذين عانوا من مشاكل اجتماعية، كما أظهر تقرير للدرك الوطني بأن أغلبية المنتحرين يعانون من اختلالات عقلية، في حين كان الدافع الذي جمع أغلبهم هو اليأس والإحباط الذي تمكن منهم في ظل تداعي حالتهم الاجتماعية والاقتصادية التي شهدت تدهورا كبيرا في السنوات الأخيرة مما جعل من أرباب الأسر والشباب عرضة للانهيارات العصبية، اليأس والإحباط• تقول زهية 42 سنة عاملة نظافة في مستشفى "كل الأبواب أقفلت في وجهي فالبلاد ليست فيها فرصة لمن يريد أن يحيا حياة كريمة، خاصة وأن تعليمي توقف في الثانية ثانوي، فلم أجد فرصة عمل إلا عاملة نظافة وتصوروا أن حتى هذا العمل ما كنت سأحصل عليه لو لم تكن جارتي تعمل به وتوسطت لي لأحرز عليه وهي تعرف ظروفي، فزوجي يعمل لفترة ويتوقف لأخرى وأطفالنا الثلاثة يكبرون وطلباتهم تكبر معهم كل يوم لقد تمكن مني اليأس في الفترة السابقة إلى درجة جعلتني أتعاطي المهدئات لأنام فلا أشعر بحجم المعاناة التي كنت أشعر بها أنا وأطفالي، لكني اكتشفت أنها تضر أكثر مما تنفع فقد كنت أقضي يومي نائمة إلى درجة أصابت أطفالي بالأذى النفسي، ولن أنسى يوم انفجرت ابنتي باكية وهي تراني شبه جثة صارخة في وجهي "رانا محتاجينك وين راكي معنا وأنت غائبة؟" وفعلا كانت تلك هي الحقيقة فقد أصبحت في فترة من حياتي الحاضرة الغائبة في بيتي." في حين أرجع مراد 39 سنة شعوره المستمر بالإحباط إلى ضياع سنوات شبابه سدى دون أن يلتحق بمنصب عمل مستقر رغم أنه صاحب شهادات يقول أنه طرق كل الأبواب دون جدوى ، فكان يعمل بصيغة التعاقد المؤقت لستة أشهر أو سنة ثم يتوقف وهكذا مرت سنوات شبابه دون أن يشعر بها فلا هو حقق استقرارا في العمل ولا في العاطفة ولا بعائلة يركن إليها وحتى الفتاة التي ارتبط بها عاطفيا وخطبها هجرته بعد أن يئست من تحسن مستواه الاجتماعي مما دفع به إلى الانهيار عصبيا والدخول في دوامة الأطباء النفسانيين ومضادات الإحباط التي يقول عنها بأنها مرادفة للإدمان ولا فرق بينها وبين المخدرات ويكفي أنه يقضي ساعات طويلة من النهار في النوم لا يدري بشيء مما حوله والأصعب هو التوقف عنها لأن ذلك يتطلب شجاعة وإرادة مثلها مثل المخدرات. وأمثال زهية ومراد كثيرون ممن صعبت عليهم ظروف الحياة التأقلم مع المجتمع والظروف، فوجدوا أنفسهم فريسة للأمراض النفسية والعصبية تفتك بهم وترميهم خارج ملعب الحياة يقضون أيامهم في انحطاط وإنهاك ونوم متواصل بسبب الأدوية المضادة للإحباط والاكتئاب• وفعلا يتم اليوم وصف العديد من أنواع الأدوية للمحبطين وكمضادات القلق والإحباط والمنومات، لكن لهذه الأدوية تأثيرات جانبية يتجاهلها جل من يقعون فريسة للأزمات النفسية بغية منهم في الخروج منها في وقت وجيز، ومضادات الإحباط لمن لا يعرف تأثيرها تعالجه عبر التأثير على توازن ناقلي الخلايا العصبية في الدماغ، وهي تملك مفعولا مباشرا على الشعور بالحزن والإحباط وفعالا في نفس الوقت، لكنها علاجات ليست خالية من المخاطر، فالمنومات مثلا تجعلنا ننام ولكنها لا تحسن نوعية النوم ونومها ليس معوضا، أما مضادات الإحباط فهي أيضا تعدل الحالة النفسية عبر تأثيرها على الخلايا العصبية لكن تأثيرها يشبه المخدرات ويمكنها أن تسبب نشوة غير طبيعية وتؤثر على مردودية العمل والسياقة وبالتالي فهي خطيرة• والمشكلة أن أغلب الجزائريين يشترون هذه الأدوية دون وصفة طبية والصيدليات تسمح لهم بمثل هذه السلوكيات، بل لمجرد أن غيرهم جربها ووصفها لهم، وذلك ما يعرضهم لأخطار جمة باعتبار أنها تحتاج إلى متابعة طبية، ولا يعني أننا لجئنا إليها في إحدى المرات تحت إشراف طبيب مختص أن نعود إليها دون وصفة طبية• الجزائر عاجزة عن التكفل بمرضاها النفسيين المتتبع للإحصائيات التي يدلي بها أخصائيو الصحة النفسية بالجزائر يلاحظ دون عناء أن 10بالمائة من الجزائريين بحاجة اليوم إلى التكفل النفسي لسبب أو لآخر، هي نسبة قد تكون ضئيلة مع ما نلمسه في الواقع لأشخاص فقدوا جادة الصواب بين ليلة وضحاها بعد أن ضاقت بهم الدنيا بما فيها، وهو الواقع الذي يدق حوله الخبراء ناقوس الخطر• فجزائريو اليوم سواء كانوا من المصابين بفصام الشخصية الذين يناهز عددهم ال 150 ألف جزائري، أو من مرضى الاكتئاب الذين تعدت نسبتهم 26 بالمائة من مجموع سكان الجزائر، كلهم في "الهوى سواء" فالأسباب التي دفعت بهم إلى المرض واحدة والاختلاف الوحيد هو حول المسميات من إحباط الى اكتئاب أو انهيار• وحينما نعرف أن 5.3 مليون بحاجة إلى التكفل النفسي، فذلك يعني بأن العشرية السوداء بأحداثها الأمنية فعلت فعلتها فينا، وما زاد الطين بلة الوضع الاجتماعي المزري الذي ساهم في رسم صورة قاتمة لحالة الجزائريين النفسية• منظمة الصحة العالمية التي دقت ناقوس الخطر حول الأمراض النفسية سبق لها وأن قرعته لعدة أمراض مزمنة على رأسها مرض القلب والشرايين، ضغط الدم والسكري، والسرطان، وكلها أمراض وقع فيها الجزائريون بسبب تداعيات الأزمة الأمنية والاقتصادية التي عصفت باستقرار بلادنا لسنوات طويلة، ووضعت الأو أم أس كالعادة يدها على دائنا الحقيقي كدولة من العالم الثالث تواجه مشكل قلة الإمكانيات الخاصة بالعلاج والتكفل النفسي، نظرا لافتقارها الى المصحات والعيادات النفسية التي بقيت على حالها منذ الاستقلال ولم تسمع عنها برامج إصلاح المستشفيات التي تواكبت عليها عدة حقائب وزارية في قطاع الصحة، أما المرضى النفسيين عندنا فلا ملجأ لهم سوى مستشفيات الأمراض العقلية التي تشبه غرفها زنزانات السجون، وهي بالطبع لن تزيد من حالة المرضى المكتئبين والمنهارين سوى سوء، مستشفيات لا تسع لغير 5000 سرير وبالكاد 500 أخصائي فقط مقابل ملايين المرضى النفسانيين، ولا شك أن أرقام المرضى المصرح بهم لا تمثل في الواقع حتى نصف حالات المصابين الفعليين الذين يعيشون بيننا، خاصة وأننا في مجتمع لا يعترف بالمرض النفسي ولا يفرق أفراده بين الانهيار العصبي والجنون، بل أن غالبيتنا يعتبر هذه الأمراض التي تصيب النفس البشرية عيبا يجب أن نخفيه، ما يبرر حالة شبه البطالة التي يعاني منها الأخصائيون النفسانيون الذين لا يستحب حتى ذكر سيرتهم في أوساط المجتمع الجزائري، ويفضل أغلبية الجزائريين اللجوء إلى ممتهني الرقية الشرعية على أن يطرقوا أبواب عياداتهم، وليت الطبيب النفسي يحظى بعشر الطوابير التي تصطف أمام منازل الرقاة، حيث يتحول فصام الشخصية إلى مس من الجن والاكتئاب إلى إصابة عين• والأكيد أيضا أن منظمة الصحة العالمية لو أحصت زبائن الرقية ومستوى محترفيها وما يستخدمونه من أعشاب وطقوس دون ضوابط أو شروط لدعت إلى عقد مؤتمر طارئ حول الصحة العقلية للجزائريين• 75 بالمائة من الأمراض العقلية تتمثل في انفصام الشخصية أكدت الأخصائية في الأمراض العقلية عيواز خديجة بأن 75 بالمائة من المرضى العقليين الموجودين على مستوى مصالح مستشفياتنا يعانون من انفصام الشخصية وأغلبهم من الشباب والذكور منهم أكثر من الإناث وذلك بسبب المشاكل الاجتماعية والعاطفية أو بسبب الصدمات كالإرهاب أو فقد عزيز بالموت أو الفراق وأضافت بأن مرض الفصام هو كسائر الأمراض المزمنة يتم متابعته طبيا والتعايش معه وذلك بالمثبتات العقلية والأدوية المضادة للهلوسة التي على المريض المداومة عليها حتى لا يتحول إلى عدواني ولا تكثر عليه الوساوس القهرية، والغريب أن جل المصابين بانفصام الشخصية يعتقدون سماع أصوات شيطانية تكلمهم أو بالأحرى أصواتا للجن، مما يدفع الأسر غالبا إلى الاعتقاد بأن أبناءها مصابين بمس من الجن فيلجأون للرقاة ويضيعون الوقت والمال بعيدا عن أهل الاختصاص مما قد يتسبب في تأزم حالاتهم أكثر•