لا أحد من أبطال المسلسل السوري (سنعود بعد قليل) يبدو مستعدا للعودة أو لديه الرغبة بذلك. في الخطوط الدرامية للمسلسل شخصيات تائهة وهاربة ومأزومة. وبين (الأزمة) و(الثورة) و(المعارضة) و(الموالاة)، يحاول المخرج الليث حجو أن يقارب الأوضاع السورية، بينما يغامر المخرج سيف الدين سبيعي في (منبر الموتى) بعمل درامي يقبض على الجمر. يبقي حجو في عمله الدرامي (سنعود بعد قليل) شيئا من الأمل. بذلك يوحي العنوان، يعززه صمود (أبو سامي) (دريد لحام) وحيدا في بيته ودكانه بحارات الشام القديمة. يبقى العجوز الثمانيني مرابطا في الشام تنتابه الهواجس وتهزه أصوات الانفجارات الآتية من بعيد، يسمي ما يحصل بالأزمة فيكون مثار انتقاد وغضب من أصدقائه القدامى وجاره العجوز الذي يصر على أنها (ثورة). لن يصمد (أبو سامي) طويلا سيلحق بأسرته المتشظية في بيروت، تبقى الذاكرة حصنه الوحيد ولا ينسى أن يري صور أبنائه الذين تبعثروا خارج سوريا لكل من يصادفه، لا يعرف أن الذين غادروه طائعين أو مكرهين -سامي (عابد فهد) وفؤاد (قصي خولي) وكريم (باسل خياط) وراجي (رافي وهبي) وبناته- قد أصبحوا أفرادا في أحلام وأهواء مختلفة، وما عادوا تلك الأسرة التي تحتضنها ذاكرته الهاربة من عنف الواقع. في المسلسل تختزل شخصية راجي (الرسام الذي يقوم بدوره رافي وهبي وهو كاتب المسلسل أيضا) تلك الظلال الكئيبة من الإحباط واليأس وصعوبة الحل القريب، شخصية غارقة في التدخين والشرب وقلق وجودي بددت بعضه الفتاة مريم، وأمل خائب بأن يعود ليقيم معرضا في دمشق. وفي العمل معظم الشخصيات قلقة ومهزوزة من الداخل تتنازعها حالات ضياع وتشظ نفسي وعدم الاستقرار في بيروت. بين هزة الوطن واهتزاز الوضع في مكان اللجوء وفقدان اليقين يستمرئ البعض الخيانات، وينشط البعض الآخر في ذلك الخط الفاصل بين النظام والمعارضة لتحقيق مغانم شخصية، لكن لا أحد يبدو مستعدا للعودة إلى شام تبدو أقرب إلى (منبر الموتى) لتبقى لافتة (سنعود بعد قليل) مرفوعة على دكّان (أبو سامي) بالشام القديمة إلى حين. في المسلسل لا يسجل حجو موقفا واضحا مما يحصل في سوريا، ولم يقع في مطب المباشرة، لكنه كان حذرا في تعامل شخصياته، فجاءت المواقف السياسية مختلفة والشخصيات مرتبكة في مقارباتها للوضع السوري كما فعل (راجي) و(كريم) وغيرهما، لكن أحداث العمل في المجمل بدت رتيبة وباهتة، مقارنة بسخونة الأوضاع على الجبهات في سوريا والحراك الاجتماعي والسياسي، فحتى أصوات القنابل والانفجارات التي يتردد صداها تبدو بعيدة ومكتومة. وإذا كان أبطال مسلسل (سنعود بعد قليل) يعانون غربة شخصية في شوارع بيروتية بدت باردة للكثيرين، يحاول كل منهم أن يجد مستقرا ووطنا إلى حين، لكنهم في النهاية هم يجدون عزاءهم في أنهم خارج وطن تولد فيه الأحزان والأهوال من الخاصرة، كما في مسلسل (منبر الموتى). ويبدو الجزء الثالث من مسلسل (الولادة من الخاصرة) الذي حقّق نجاحا جماهيريا كبيرا، أكثر نضجا وتعاملا مع الأحداث بعد تخلص الكاتب سامر رضوان من الإرباك الذي وقع فيه وغياب الترابط بين خطوط درامية عدة في الجزءين السابقين، واستثمار الوضع الحالي في سوريا لزيادة جرعة الجرأة والتشويق. ويعتبر رضوان -الذي اعتقلته أجهزة الأمن السورية قبل فترة- أن المسلسل (عبارة عن شهادة ذاتية يقدمها عن دراما الحياة السورية خلال العامين الأخيرين). ويواصل العمل فضح المؤسسة الأمنية والدولة البوليسية في سوريا، وكيف أوصلت تلك العقلية القمعية البلاد إلى حالها الراهن بالقمع العنيف للمظاهرات السلمية. ويرصد المخرج سيف الدين سبيعي -بعد أن انسحبت المخرجة رشا شربتجي- في المسلسل بشكل دقيق بدايات الحريق السوري الكبير من خلال سرد بوليسي مشوق وقصة متماسكة. وفي بداية المسلسل نقرأ أن العمل ليس توثيقا (إنما هو محاكاة درامية عما حدث ويحدث في بلدنا) في محاولة لاستيعاب الهجمة على صانعي العمل الذي يركز -في الحلقات التي عرضت حتى الآن- على الفساد الذي تغرق فيه البلاد من أعلى المستويات، واصطدام أهل الطبقة المعدمة والمسحوقة بضباط الأمن الذين يسحقون كل من يفكر في أن يعلو صوته. ويرصد العمل انعكاسات الوضع السوري الراهن على الشخصيات، وعلى مصائر الناس الضعفاء، وعلى المجتمع ككل. ويعرض لرجال المال والسياسة الفاسدين الذين يتحكمون بمصير البلاد وكيف بدؤوا بجمع الفارين من وجه العدالة ليكونوا ذراعا للمؤسسة الأمنية تستخدم لقمع المظاهرات. وفي (المنبر) تحدث تحولات كبرى في الشخصيات لاسيما شخصيتي جابر (قصي خولي) وأبو نبال (باسم ياخور) اللذين يتخلى عنهما رجل الأعمال أبو إياد (عبد الحكيم قطيفان) ويبدآن رحلة الانتقام منه بأي طريقة كانت. أما رجل المخابرات رؤوف (عابد فهد) فيصبح أشد سطوة وقسوة وتمردا. ويرى الفنان باسم ياخور أن الجزء الثالث من مسلسل الولادة من الخاصرة (يرصد الصراع الدائر في سوريا من زاوية إنسانية واجتماعية ويطرح حالة الانقسام المؤسف الحاصلة في المجتمع السوري بما في ذلك الاختلاف بين الأسرة وأفراد العائلة الواحدة). ويعتبر الفنان عابد فهد أن (منبر الموتى) هو الأكثر جرأة بين الأجزاء الثلاثة من المسلسل، معتبرا أن العمل يقترب أكثر من الواقع السوري ليضيء النور للمتلقي ويكشف له الطريق ويوضح الصورة دون محاباة لأحد أو مجاملة لفصيل على حساب الآخر. ويستمر نجوم الجزءين الأول والثاني بتجسيد الأدوار الرئيسية في العمل بجزئه الثالث وهم: عابد فهد وباسم ياخور وقصي خولي ومنى واصف وعبد الحكيم قطيفان، كما دخل على خط الأحداث في المسلسل مجموعة شخوص جديدة، من بينها سامر إسماعيل (بطل مسلسل عمر) ومي سكاف وسمر سامي وأيمن رضا وغيرهم. (منبر الموتى) مسلسل عن غربة الداخل السوري عن العسف والظلم وامتهان الإنسان الذي يولد انفجارا غير محمود العواقب. لا مهرب لأبطال العمل ولا مصير غير المواجهة، لذلك تكون شخصيات (المنبر) صدامية لا رغبة لديها في الغفران، ولا خط رجعة تمتلكه ما دامت في الأتون.