للموت سكرات يُلاقيها كل إنسان حين الاحتضار؛ فقد أخرج ابن أبي الدنيا أن عائشة - رضي الله عنها - دخلتْ على أبيها أبي بكر - رضي الله عنه - في مرَض موته، فلما ثَقُل عليه، تمثَّلت بقول الشاعر: لعمرك ما يُغني الثراءُ عن الفتى *** إذا حشرجتْ يومًا وضاق بها الصدرُ فكشف عن وجهه، وقال - رضي الله عنه -: ليس كذلك، ولكن قولي: ( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) ق: 19. والمقصود بسكرات الموت: هي (كُرُباته وغمراته)، قال الراغب - رحمه الله - في (مفرداته): (السُّكْر: حالة تَعرِض بين المرء وعقله، وأكثر ما تُستعمَل في الشراب المُسكِر، ويُطلَق في الغضب والعِشق والألم والنُّعاس والغشي الناشئ عن الألم وهو المراد هنا)؛ (فتح الباري: 11/440. أحبتي في الله، لو لم يكن بين يدي العبد المسكين كرْب ولا هول ولا عذاب سوى سكرات الموت بمجردها، لكان جديرًا بأن يتنغَّص عليه عيشه، ويتكدَّر عليه سروره، ويُفارِقه سهوه وغفلته، وحقيق بأن يطول فيه فِكرُه، ويَعظُم له استعدادُه، لا سيما وهو في كلِّ نفَس بصدده، فالموت كما قيل: (كربٌ بيد سواك، لا تدري متى يغشاك). والعجيب أن الإنسان لو كان في أعظم اللذات، وأطيب المجالس من اللهو، فانتظَر أن يدخل عليه إنسان، فيَضربه خمس ضربات بالسيف، لتكدَّرت عليه لذَّاته، ولفسَد عليه عيشه، وهو في كل نفَس بصدد أن يدخل عليه مَلَك الموت بسكراتِ النَّزع، وسكرات النزع كما قيل: أشدُّ من ضربٍ بالسيف، ونشرٍ بالمناشير، وقرضٍ بالمقاريض؛ لأن قطْع البدن بالسيف إنما يؤلِم لتَعلُّقه بالرُّوح، فكيف إذا كان المتناوَل المباشَر نفْس الرُّوح؟! وإنما يستغيث المضروب ويصيح، لبقاء قوَّته في قلبه وفي لسانه، وإنما انقطع صوت الميت وصياحه من شدة ألمه؛ لأن الكرب قد بلغ فيه، وتَصاعَد على قلبه، وبلغ كلَّ موضِع منه، فهدَّ كلَّ قوة، وضعَّف كلَّ جارحة، فلم يترك له قوة الاستغاثة، ولو كان المجذوب عِرْقًا واحدًا، لكان ألمه عظيمًا، فكيف والمجذوب نفس الرُّوح؟! لا من عِرْق واحد بل من جميع العروق، ثم يموت كلُّ عضو من أعضائه تدريجيًّا، فتبرُد أولاً قدماه، ثم ساقاه، ثم فخذاه، ولكل عضوٍ سكرة بعد سكرة، وكُرْبة بعد كربة، حتى يبلُغ بها إلى الحُلقوم، فعند ذلك ينقطِع نظرُه عن الدنيا وأهلها)؛ انظر: التذكرة؛ للقرطبي. وصف السلف الصالح لسكرات الموت: 1- يُروى عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (أنه قال لكعب الأحبار: حدِّثنا عن الموت، فقال كعب: نعم يا أمير المؤمنين، هو كغصن كثير الشوك أُدخِل في جوف رجل، فأخذتْ كلُّ شوكة بعِرْق، ثم جذَبه رجلٌ شديدُ الجذب، فأخذ ما أخذ، وأبقى ما أبقى). وكان عمر - رضي الله عنه - يقول (لو أن لي طِلاع الأرض ذهبًا، لافتديت بها من هول المَطلَع). 2- وقال شداد بن أوس (الموت أفظع هول في الدنيا والآخرة على المؤمن، وهو أشد من نشرٍ بالمناشير وقرْض بالمقاريض، وغَلْي في القدور، ولو أن الميت نُشِرَ (بُعِث من قبره)، فأخبر أهل الدنيا بألم الموت، ما انتفعوا بعيش ولا تلذَّذوا بنوم). 3- دخل الحسنُ البصري على مريض يَعوده (فوجده في سكرات الموت، فنظر إلى كَرْبه، وشدَّةِ ما نزَل به، فرجع إلى أهله بغير اللون الذي خرج به من عندهم، فقالوا له: الطعام يرحمك الله! فقال: يا أهلاه، عليكم بطعامكم وشرابكم، فوالله لقد رأيتُ مصرعًا لا أزال أعمل له حتى ألقاه). وصدَق عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - حيث قال: (السعيد مَن وُعِظ بغيره). وقيل لبعض الزُّهاد: (ما أبلغ العظات؟ فقال: النظر إلى الأموات). 4- ولما حضرت عمرو بن العاص - رضي الله عنه - الوفاة قال له ابنه عبد الله: (يا أبتاه، إنك قد كنتَ تقول لنا: ليتني كنتُ ألقى رجلاً عاقلاً عند نزول الموت، حتى يَصِف لي ما يَجِد، وأنت ذلك الرجل، فصِفْ لي الموتَ، فقال: والله يا بني لكأن جَنْبِي في تَخْت[1]، وكأني أتنفَّس من سَمِّ إبرة، وكأن غصن الشوك يُجَرُّ به من قدمي إلى هامتي، ثم قال: ليتني كنتُ قبل ما بدا لي ** في قلال[2] الجبالِ أرعى الوعولا والله ليتني كنتُ حيضًا[3]، أعركتني[4] الإماء بدريب الإذخر5)؛ (كتاب المحتضرين ص 93).