التعصب مشكلة راسخة في أعماق العربي غالباً، وأول خطوات الحل هو التفطن لهذه العادة الثقافية التي رسخها الفراغ السياسي وغياب الأنظمة الواضحة ونقص العدالة مما جعل كثيرين يلجأون للاستعانة بانتمائهم القبلي أو العائلي. أهو من المستحيل أن نخفف من استخدام العلاقات الاجتماعية في العمل والتوظيف .. لصالح العلاقة التعاقدية ونظم المساواة والعدل؟ هل يمكن أن تتحول القبيلة إلى كيان اجتماعي وأخلاقي يرسخ التواصل والتعارف ومساعدة الشباب والفقراء وحماية الضعفاء ومساندة أصحاب الحقوق، دون أن تكون كياناً سياسياً يخوض الانتخابات ويعمق الصراعات ويستدعي التاريخ الشائك ضمن المجتمع الواحد؟ متى تتوقف جلسات المفاخرة والمنافرة الشعرية التي تمجد بطولات كان ضحاياها من الأهل والإخوة والقرابة وليسوا من الأعداء الحقيقيين؟ كما قال البحتري في المصالحة بين بني تغلب: وَفُرْسانِ هَيجاءٍ تَجِيشُ صُدُورُهَا *** بِأحْقَادِها حَتّى تَضِيقَ دُرُوعُهَا تُقَتِّلُ مِنْ وِتْرٍ أعَزَّ نُفُوسِهَا *** عَلَيْها، بِأيْدٍ مَا تَكَادُ تُطِيعُهَا إذا احتَرَبتْ يَوْماً، فَفَاضَتْ دِماؤها *** تَذَكّرَتِ القُرْبَى فَفَاضَتْ دُمُوعُها في غفلتنا عن مشكلاتنا المزمنة والخطيرة يبدو لدينا استعداد غريزي لاستعادة معارك الأمس وتثور حميتنا وأنفتنا عند أدنى ملامسة لتاريخنا القريب وكأننا أصبحنا حراساً فحسب لذلك الموروث القبلي الذي وجدت فيه قبائلنا ومدننا نفسها وجهاً لوجه في صراع مع الجيران والإخوان والقرابة! من المستفيد من برامج تلفزيونية تؤجج الصراع القبلي عبر منافسة بين شعراء وتشجع أفراد القبيلة أو البلد أن يصوتوا لممثلهم لمجرد أنه ينتمي إليهم، ويكون التصويت برسائل أو اتصالات ذات ثمن مضاعف يعود جزء منه للقناة؟ أي جدوى لأموال تهدر في عقد حفلات ومسابقات جَمال بين الِجمال؟ متى تتوقف لغة التعميم ضد هذا الطرف أو ذاك؟ لم لا نتحدث عن الفضائل الأخلاقية الصادقة التي لم تخلُ منها قبيلة أو جماعة من جماعات المسلمين؟ يذكر أن شالح بن هدلان غضب على جماعته وارتحل عنهم لأنهم لم يشركوه في المشورة، وقال أبياته الشهيرة: أنا إذا كثر الأشاوير ما شير حلفت ما جي بارز ما دعاني أنا صديقك بالليالي المعاسير ولا الرخا كلن يسد بمكاني وكانت قبائل (الرولة) تتشاور ويسجل الرحالة الغربيون خضوع شيوخها لرأي العامة. فلا يسوغ إذا وصف كل القبائل أو البوادي فضلا عن (الجنس العربي) بأنه استبدادي وصاحب رأي أحادي، أو عصي على الديموقراطية الحقة. وما أكثر المكارم الإنسانية والعربية والإسلامية التي يمكن إبرازها من عِبر الآباء والأجداد؟ وليس الفخر بالانتساب المجرد لهذه القبيلة أو تلك من المكارم في شيء ..! كان علي رضي الله عنه يقول: الناس من جهة التمثال أكفاء أبوهم آدم والأم حواء فإن يكن لهم من أصلهم نسب يفاخرون به فالطين والماء الفضل في الإسلام بالتقوى وفعل الإنسان {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (13) سورة الحجرات. وفي الحديث (إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بآبائها، والناس رجلان: بر تقي وفاجر شقي، والناس بنو آدم وآدم من تراب) رواه أحمد والترمذي وأبو داوود عن أبي هريرة وسنده حسن. معرفة النسب صلة للرحم وبر بالآباء والأجداد، أما التعصب فهو نصرة القبيلة والجماعة في الحق والباطل وهو ما حذر منه الرسول عليه الصلاة والسلام. ومن التعصب الطعن في أنساب الآخرين، والتشكيك فيها أو ازدراؤها، والتعصب عادة عربية راسخة (أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لا يَتْرُكُونهُنَّ: الْفَخْرُ فِي الأَحْسَابِ وَالطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ وَالاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ وَالنَّيِاحَةُ) رواه مسلم عن أبي مالك الأشعري. متى نتوقف عن ترديد كلمة (فلان عبد .. وكلنا عبيد لله)؟! من التعصب العجز عن نقد تاريخ القبيلة وتصرفات زعمائها لأنها ارتبطت في أذهاننا بالبطولة والتضحية بينما كانت مشوبة أحياناً بالعدوان على الناس والسلب والنهب؟ .../ ... يتبع