صدر عن وزارة الثقافة في البحرين كتاب يحمل العنوان الشاعري (سينما فيرنر هيرتزوغ.. ذهاب إلى التخوم الأبعد)، ترجمه أمين صالح عن كتاب (هيرتزوغ عن هيرتزوغ) الصادر بالإنجليزية عن دار (فابر آند فابر) في لندن من إعداد بول كرونين. يضم الكتاب مجموعة كبيرة من الحوارات التفصيلية الموسعة مع المخرج السينمائي الألماني الكبير فيرنر هيرتزوغ (مواليد 1942)، ويقع الكتاب في 325 صفحة من القطع الكبير من دون صور. يقول المؤلف في تقديمه للكتاب إن مجموع أعمال هيرتزوغ (التي تبلغ 45 فيلما دراميا طويلا، والبقية أعمال وثائقية ودرامية قصيرة) (ليست مزحة، بل هي المجموعة الأكثر أهمية في السينما الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية، وربما المفتاح لما اعتبرت الموجة الجديدة في السينما الألمانية). ويضيف أن (هيرتزوغ لم يلق التقدير اللائق في بلاده ألمانيا، وتم تجاهله في البحوث الدراسية في الدول الناطقة بالإنجليزية). وقد حاول المؤلف أن يجعل الحوارات التي يتضمنها الكتاب بين المؤلف والمخرج، وهي الحوارات التي يتكون منها متن الكتاب بأسره، حرة وسلسة، يمكن للقارئ الذي لم يشاهد كل أفلام هيرتزوغ استيعاب وإدراك بعض ملامح تجربته السينمائية والفكرية عموما كما انعكست في أفلامه. ينقسم الكتاب إلى تسعة فصول، مقسمة حسب التطور الزمني، من البدايات الأولى إلى أحدث ما أخرجه هيرتزوغ من أفلام. الفصل الأول مثلا، وهو بعنوان (هاتف، آلة كاتبة، سيارة) يتناول مولد وطفولة هيرتزوغ ونشأته في ميونيخ، ثم رحلاته المبكرة (وهو في التاسعة عشرة من عمره) إلى إنجلترا واليونان وكريت والإسكندرية في مصر ثم السودان. ويقول هيرتزوغ إنه أصيب بمرض غامض في جوبا بجنوب السودان، فاضطر للعودة بسرعة إلى أسوان (وكان السد العالي لا يزال قيد الإنشاء.. وكان الروس قد بنوا الأسس المتينة الصلبة، وكان هناك عدد من المهندسين الألمان يعملون في الأجزاء الكهربائية للسد). وقد عثر عليه أحد هؤلاء المهندسين بعد أن لجأ إلى سقيفة مصابا بحمى شديدة، ثم تمكن من العودة إلى ألمانيا حيث أخرج أول فيلمين قصيرين. يروي هيرتزوغ أيضا بعض ذكرياته الغريبة في بافاريا أثناء الحرب العالمية الثانية (لم يكن عمره يتجاوز ثلاث سنوات غالبا) منها قصف مدينة روزنهايم، كما يقول إنه رأى في طفولته رؤيا غريبة عندما شاهد أمامه (سانتا كلوز حاملا كتابا مدونا فيه كل آثامه وذنوبه وبرفقته مخلوق يشبه الشيطان)! لم يدرس هيرتزوغ السينما في معهد متخصص، بل إنه لا يرى فائدة لمثل هذه المعاهد، فقد تعلم السينما من خلال العمل السينمائي نفسه بعد أن درس التاريخ والأدب والمسرح. وكان يمول أفلامه الأولى القصيرة من حصيلة عمله أثناء الدراسة الثانوية كلحّام في مصنع للصلب. تعلم هيرتزوغ لغات عدة، وانتقل بين بلدان عدة حيث صور أفلامه مثل المكسيك والولايات المتحدة واليونان وعدد من بلدان أميركا اللاتينية (بيرو والبرازيل) وأفريقيا (أوغندا وتنزانيا وكينيا والكونغو والنيجر والجزائر والكاميرون). ويتحدث هيرتزوغ تفصيلا في الفصل الثاني عن تجربته في التصوير في الصحراء وما تحمله وفريق التصوير من مشاق أثناء العمل في فيلمه الشهير (فاتا مورغانا) (السراب)، وصوره في أفريقيا. في لانراروت بجزر الكناري التابعة لإسبانيا صور هيرتزوغ فيلمه (حتى الأقزام بدت صغيرة) الذي اتهمه به البعض في ألمانيا بالفاشية، أو بأنه يسخر من الثورة العالمية (بدلا من أن ينادي بها)، وكان وقت التصوير -كما يقول المؤلف- في أواخر الستينيات (حيث كان بالإمكان تنفس الثورة مع الهواء). ويقول هيرتزوغ إن بعض اليساريين قالوا له إنه يسخر من الثورة ويصورها من خلال تمرد الأقزام باعتبارها ثورة عاجزة وسخيفة. كان هيرتزوغ بعيدا عما يجتاح أوروبا في تلك الفترة من ثورات غضب في أوساط الطلاب والشباب، وهو لا يعتبر نفسه ينتمي إلى جيل 1968 الذي أصدر بيان أوبرهاوزن الشهير ضد السينما التقليدية، فقد بدأ في إخراج الأفلام قبل أن يظهر جيل السينمائيين الألمان الشباب في ذلك الوقت. هيرتزوغ سينمائي مفكر مهموم بمصير البشرية، وهو يقول في الفصل الثالث من الكتاب إن (أحفادنا سوف يلوموننا لأننا لم نشن غارة بالقنابل اليدوية على محطات التلفزيون لأنه يخرب رؤيتنا ويسبب لنا الحزن والعزلة والوحشة بسبب ما يعرضه من إعلانات تجارية). ويقر هيرتزوغ بأن البشرية ربما تكون قد أدركت مخاطر التسلح النووي وتلوث البيئة والتضخم السكاني على الكوكب الأرضي، غير أنه يؤمن بأن (الافتقار إلى الصورة الملائمة يشكل خطورة بالقدر نفسه. إنه خطر جدي عندما تكون بلا ذاكرة). ويضيف (نحن بحاجة إلى صور تتوافق مع حضارتنا وحالتنا الأكثر عمقا، وهذا هو ما يجعلني أحب الفيلم الذي يبحث عن صور جديدة). من أكثر أفلام هيرتزوغ شهرة فيلم (أغيري.. غضب الرب) الذي صوره في بيرو في ستة أسابيع وتكلف -كما يقول- 370 ألف دولار ذهب ثلثها إلى الممثل كلاوس كينسكي الذي عمل معه في خمسة أفلام، وارتبط معه بعلاقة غريبة وصفت بأنها علاقة (حب- كراهية)، فقد تشاجرا كثيرا وحاول كل منهما فرض رأيه على الآخر، وذات مرة أقسم هيرتزوغ أنه لن يعمل قط مع كينسكي لكنه حنث بقسمه. وقد واجه فيلم (أغيري..) الكثير من المشاكل اللوجستية والإنتاجية والتقنية والصراعات بين المخرج وبطله، واستخدم فيه هيرتزوغ عددا كبيرا من السكان الأصليين. وهو يروي الكثير من القصص المثيرة التي وقعت أثناء التصوير، فقد ضرب كينسكي زميله أثناء تنفيذ أحد المشاهد بالسيف في رأسه، وكان يرتدي خوذة لكنه أصيب إصابة لا تزال ظاهرة حتى اليوم، كما أطلق الرصاص من بندقية على مجموعة من الهنود الحمر بعد، لذا كان يتجنب تصوير اللقطات القريبة ربما لأنها تجعله بالقرب من الممثلين. كتاب (سينما فيرنر هيرتزوغ) كتاب ممتع، سواء فيما يحتويه من معلومات أو أفكار ترتبط بنظرة ذلك السينمائي الكبير ورؤيته للعالم، وعلاقته مع الكاميرا ومع الدنيا، ونظرته النقدية للثقافة الأوروبية، ونظرته للتكنولوجيا السينمائية، محاضراته، تحايله للوصول إلى ما يريده، واتجاهه لتصوير المستحيلات مثل التصوير من أعلى قمة في جبال الأنديز، أو في قاع كهف سحيق يعود للقرون الوسطى. كل هذه الأفكار تتردد في سياق الكتاب من خلال تلك الرحلة الذهنية داخل عقل فيرنر هيرتزوغ، ومن خلال الأسلوب السلس الجذاب الذي تتميز به ترجمة أمين صالح، ذلك المترجم المخلص للكلمة والمعنى، الذي يتمكن بفضل فهمه العميق للسينما أيضا من نسج هذا النص الممتع.