بقلم: فارس الخطاب لم تشهد العلاقات العربية-العربية انقسامات واختلافات وعداءات مذ قضية دخول القوات العراقية إلى الكويت يوم 2 أوت 1990 وحتى قيام ما سمي الربيع العربي، مثل ما هو عليه الحال الآن. فمنذ أن بدأت الجماهير التونسية حراكها الطبيعي عام 2010 للمطالبة بتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والحريات، ثم فرار الرئيس التونسي (القوي) تحت مظلة وحماية قيادة الجيش بخطوة اعتبرها البعض مفبركة، وستفضي إلى حالة جديدة وغريبة على المجتمع العربي، ومع وصول الرئيس بن علي إلى المملكة العربية السعودية -التي منحته وعائلته حق اللجوء السياسي- دق أول مسمار في توتر العلاقات التونسية-السعودية (الخليجية). وفي مصر، وجه الشباب المصريون عبر مواقع التواصل الاجتماعية على الإنترنت (فيسبوك، تويتر، يوتيوب، وغيرها) نداء إلى جميع المصريين لإعلان يوم الثلاثاء 25 يناير 2011 (يوم غضب)، وقد كان لنجاح الحراك الشعبي في تونس أثره الكبير على حجم ونسبة التلبية الجماهيرية لهذه الدعوة فخرج الآلاف في مظاهرات سلمية في مختلف أرجاء مصر مطالبين بإجراءات حكومية ضد الفقر، والبطالة وارتفاع الأسعار، ثم رفع سقف الحريات. وبشكل غريب وغير متوقع لجأت السلطات هناك لمحاولة فض هذه الحشود بالقوة، مما غير اتجاه ومطالب المتظاهرين من تحسين الأوضاع إلى المطالبة برحيل الحكومة، ولم يفضِ الدم الذي أريق لفض التظاهرات والاعتصامات إلا إلى المزيد من أعداد المعتصمين، وتركيز واضح ومبرمج من قبل وسائل الإعلام العربية والعالمية، وكانت النتيجة تنحي الرئيس محمد حسني مبارك ومطالبة دول خليجية بترحيله إليها لضمان سلامته، لكن طلب هذه الدول رفض وأودع مبارك السجن، فكان هذا مسمارا آخر في رؤية القادم من نتاجات هذه المتغيرات المتسارعة في المشهد العربي. وإن اختلف السيناريو الخاص في ليبيا لاختلاف زعيمها معمر القذافي، واختلاف كل التركيبة الحكومية هناك عن المنظومات المتعارف عليها في الحكم، ولأن للقذافي ثارات وعليه ثارات ومشاكل وعقد مع الجميع فقد كان تصرف الغرب والولاياتالمتحدة مختلفا تماما في حراك ليبيا، حيث تسارعت الأمور ليضع الغرب سلاحه الجوي وأساطيله العسكرية الضخمة في خدمة ثوار ليبيا، وساهم هذا الإسناد غير المحدود في منح الحراك الليبي فوضى مبرمجة لتكون هي سيدة الموقف وصورة الإطار الليبي المقبلة بعد القذافي وحتى اليوم. أثناء وبعد هذه الأحداث (الربيع العربي) بدأت الولاياتالمتحدة بإرسال رسائل، بعضها واضح وصريح، والآخر إعلامي ظاهر ومبطن، مفادها بأن الدور قادم على الجميع، وأنه ما من دولة في مأمن عن حركة الربيع التي تجتاح الوطن العربي. وحقيقة الأمر أن هذه الرسائل كانت موجهة تحديدا لدول الخليج العربي، وقد تلقتها هذه الدول بحرص وجدية وحذر، فشهدت جميع دول الخليج العربي تقريبا حركة إصلاحات قانونية واجتماعية واقتصادية وإنسانية، حصنت من خلالها قدر المستطاع من قدرات شعوبها على درء الفتن والوقوف بوجه من يحاول إثارة القلاقل والمشاكل، ولو إلى حين، حتى ينقشع غبار التغييرات التي طرأت وجاء بها الربيع العربي على سدة الحكم في تونس ومصر وليبيا. في كل ما جرى كانت الأمور تمضي بتوازن بين الولاياتالمتحدة وبين معظم الدول العربية المتناغمة مع سياساتها في المنطقة من المغرب العربي وحتى سلطنة عمان، حتى جاء موضوع سوريا، ثم موضوع الإخوان المسلمين في مصر، وتأييد الولاياتالمتحدة لهم (بحسب الرؤية الخليجية). ففي سوريا، قالت الولاياتالمتحدة إنها تقف مع ثوارها وتؤيد حقهم في الخلاص من حاكمهم (بشار الأسد)، سواء بعبارات مباشرة من الرئيس الأميركي باراك أوباما أو وزير خارجيته أو من خلال الرسائل التي كانت تصل باستمرار إلى حلفاء الولاياتالمتحدة في المنطقة وتحثهم فيها على تقديم الدعم المالي والفني واللوجستي للثوار، لتمكينهم من أسقاط النظام السوري بسرعة، بما يفضي إلى إضعاف حزب الله اللبناني وبالنتيجة إيران، وكذلك الدولة الطائفية في العراق. لقد ذهبت بعض دول الخليج إلى أقصى درجات الاصطفاف خلف ثوار سوريا ضد حاكمها بشار الأسد، ومن دون مقدمات ومن دون مشاورات غيرت الولاياتالمتحدة موقفها تجاه سوريا، والأدهى تجاه إيران أيضا، وبدا وزير خارجية الولاياتالمتحدة جون كيري لاهثا وراء مقاربة أميركية-روسية. وعبرت المملكة -بحسب تقرير نشرته وكالة (رويترز)- عن أن خيبة الأمل -التي أصابت الرياض- ترجع في المقام الأول إلى تصرفات واشنطن أقدم حلفاء المملكة الدوليين التي انتهجت منذ بدء ما سمي الربيع العربي سياسات عارضها الحكام السعوديون بشدة، وأضرت كثيرا العلاقات بين البلدين. أما موقف الولاياتالمتحدة من أحداث مصر فهو غريب جدا، فمصر ذات المعاهدات الإستراتيجية والعسكرية والأمنية معها، تركتها في مهب الريح، وبدت ردود أفعالها تجاه مجريات الأمور فيها متخبطة وغير حاسمة، وهو أمر رفضته معظم دول الخليج العربي. وكنتاج لمواقف أميركا من هذه القضايا الخطيرة وذات المساس المباشر بأمن دولنا العربية أعلنت المملكة العربية السعودية، وقد يكون ذلك لأول مرة بهذا الحجم والشكل والوضوح، عدم رضاها عن سياسات واشنطن تجاه قضايا كبيرة ومحرجة ومهددة للأمن القومي العربي. وإثر ذلك دخلت علاقات الطرفين غرفة التبريد السريع، مما نبّه الطرف الأميركي لضرورة التحرك السريع لإعادة الدفء وموازين الثقة بين الطرفين إلى حدودها المعقولة، فكانت زيارة كيري للرياض وأبوظبي ثم القاهرة ليعلن من هناك بتصريحات لافتة، زادت حقيقة من عدم وضوح رؤية صورة الإدارة الأميركية الضعيفة وتخبطها في حسم المواقف من قضايا حساسة أربكت الأمة العربية وزادت من فرقتها وعمقت أزماتها. إن مفهوم الأمن القومي العربي قام -بحسب ميثاق جامعة الدول العربية- على فكرة قدرة الدول العربية على حماية الأمة العربية من الأخطار الخارجية والداخلية القائمة أو المحتملة، وتحقيق فكرة القومية العربية. الأساس إذا هو القومية العربية، وهو ما انتبه له بعض القادة العرب جراء إفرازات الربيع العربي، حيث وجدوا أن الحلول الإسلامية التي أتى بها التغيير كانت وبالا على النظام العربي بأسره، فلا الذين قدموا لسدة الحكم في تونس ومصر وليبيا من الخبرة السياسية والإدارية والأيديولوجية بمكان يؤهلهم لقيادة هذه الدول إلى مرحلة انتقالية تهيئ لمرحلة ديمقراطية حقيقية، ولا الأوضاع التي تمر بها بقية أقطار الأمة تسمح بأن يكون الحكم فيها مطلقا للإسلام السياسي، خاصة في ظل المتغيرات الكبيرة التي طرأت على الحكم في العراق ووضوح خندق الطائفية في سوريا وزيادة وتيرة التدخل الإيراني في البحرين واليمن وغيرها. الأمن القومي العربي شتت بطريقة مؤدلجة ومدروسة بعناية، خصوصا منذ إعلان الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش الحرب على الإرهاب إبان أحداث سبتمبر 2011، وقد كان هذا الإعلان في حقيقة الأمر إعلانا لإنهاء الأمن القومي العربي حيث قال قولته المعروفة (من ليس معنا فهو ضدنا). ومذ ذلك الحين وحتى اللحظة لم يتمكن أحد من القضاء على الإرهاب، بل انتشر وتوسع وزادت دائرته نتيجة إطلاق يد الولاياتالمتحدة في جميع دول العالم الفقيرة، والشرق الأوسط تحديدا، لتحتل دولا منه ولتضرب دون استئذان كل من يوصم بالإرهاب بحسب تصنيفها، وهو ما يجعل الشكوك تدور حول ماهية المنظمات الإرهابية الحقيقية، ومن يقف وراءها؟ إن تحسس الدول العربية من موضوع الأمن القومي يختلف باختلاف موقعها الإقليمي، ففي حين تخشى دول الخليج العربي بشكل واضح وتاريخي من الدور الإيراني، خاصة بعد سقوط شاه إيران وظهور منهج (تصدير الثورة) واكتشاف خلايا وتنظيمات وأشخاص يعملون لصالح المشروع الإيراني في دولهم. هذا فضلا عن اكتشافهم أيضا أنهم أخطؤوا في مجاراة الولاياتالمتحدة للخلاص من حكم صدام حسين في العراق والذي كان ندا كفُؤا لإيران، وخبيرا بالتعامل مع الإستراتيجيات الإيرانية وتورطهم الآن بنظام حكم طائفي يستمد جل قوته وإمكاناته من إيران، بل يشكل قاعدة شمالية إيرانية ضد دول الخليج العربي، وهو ما زاد من حاجة دول الخليج للاستعانة بالقوى الدولية الأجنبية لغرض الحفاظ على أمنها القومي. وأتمنى أن تستفيق قيادات هذه الدول، وتقوم بتعويض هذه القوات بقوات نخبة عربية، سواء من المغرب العربي أم من المملكة الأردنية، وتمكينها من صفقات الأسلحة الحديثة التي تحصل عليها دول الخليج بشكل مستمر من مناشئ متعددة، وهو رهان يعزز من مفهوم الأمن القومي العربي، ويجعل من دول الخليج رائدة ونموذجا لتفعيله، كما يبدد مخاوف المتغيرات الدولية ومواقف الدول الكبرى، وقد بدا ذلك واضحا في الموقف الأخير للولايات المتحدة من مواضيع إيرانوسوريا ومصر، ومن قبلها جميعا العراق. بقية الدول العربية تتقاسمها هموم الأمن القومي العربي وبألوان شتى، فالمغرب العربي يخشى الإرهاب وتطور خلاياه، كما بدأ يخشى النفوذ الإيراني الأيديولوجي المتنامي، مستغلا حالة ضعف التشغيل والبطالة التي تستشري في شعوب هذه الدول. أما السودان فمهدد في أمنه القومي من عدة جهات، ولم تنجح ليبيا حتى الآن في إنشاء دولة بالمعنى الصحيح، لذلك فإنها كلها مهددة، وأمنها القومي على محك خطير. ودخل الأمن القومي لمصر في نفق مظلم اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، وتحتاج إلى أن تتخلى بسرعة عن سياسة المواجهات لصالح سياسة الحوار للملمة الشعب المصري بدلا من سياسة الإقصاء التي لن تجدي نفعا، وستزيد الخطر الذي يستهدف مصر وأمنها تعقيدا. ولا أعرف إن كانت لدى جامعة الدول العربية وأمينها العام فكرة عن الصومال وما آلت إليه الأمور فيها. والعراق بات بعد فقدان هويته سكينا يجرح ذاته والآخرين، وكذلك سوريا ولبنان اللتان تمتلك فيهما إيران نصيبا وافرا من النفوذ. حتى موضوع سوريا تخبط العرب فيه دون أن يمتلكوا القدرة على إيقاف التخبط متى شاؤوا، فهذا البلد العربي الذي انتفض شعبه ضد الطغمة الحاكمة وضع تحت رحمة ضغوطات إقليمية تركية وإيرانية وعراقية وعربية شتى وأميركية وإسرائيلية، مما شتت فصائل الثورة وجعل لكل منها أجندتها التي تتعارض مع أجندة غيرها، وبحسب آلية الدعم والإسناد التي تتلقاها. فمن دفع ثمن ذلك؟ الشعب السوري، التراث العربي في سوريا، الاقتصاد السوري، وحتى الجهد العربي الطيب لدعم الثورة في سوريا. لقد شكل (نجاح) و(فشل) الربيع العربي إحباطا قويا لآمال النهوض بالأمن القومي العربي كإستراتيجية، ففي حين يشهد الدور الأميركي تراجعا واضحا، وظهور قوى دولية وإقليمية جديدة كان المواطن العربي، بل حتى بعض الأنظمة العربية، يتمنى أن تشكل انتفاضة الجماهير في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا وغيرها، ممرات آمنة وحتمية لتحقيق المشروع القومي في الأمن. لكن من اعتلى السلطة الجديدة في دول الربيع لم يمنح الفرصة حقها، كما لم تتعلم بقية الدول -والتي قالت عنها الولاياتالمتحدة إنها تنتظر دورها في الربيع- من دروس الربيع، فإيجاد منظومة أمن قومي عربي ستحمي الجميع وستحافظ على الديمقراطيات وعلى الاقتصاد وبنيان المجتمع بالقدر نفسه الذي تحمي فيه جميع أقطار الوطن العربي من أي تهديد عسكري أو اقتصادي خارجي، ولا أدري حقيقة متى سنتعلم من تجارب نمر بها وتكلفنا أثمانا باهظة؟