الجزء الأوّل عندما ظهر اسمه فجأة على شاشة الحاسوب وقرأت أوّل عبارة كتبها: (أختاه أودّ أن أتعرّف عليكِ) خفّق قلبي بقوة، شعرت بأنني أجتاز مرحلة من حياتي إلى مرحلة جديدة وأحسست بأن ثمّة شيء ينتفض داخلي، شيء مبهم، شيء غامض، ترى هل هو حبّ المغامرة؟ الرغبة في خوض تجربة؟ الأمل في أن تتغير حياتي وتتبدّل لتمتزج بطعم جديد، بشكل جديد وبرائحة مغايرة غير التي اعتدت عليها أم أن هذا الشيء الذي ينتفض داخلي ما هو إلاّ وخزة ضمير، رجفة خوف من اللّه، دقّة على ناقوس الخطر تهتف بي أن (عودي ولا تقدّمي ولا تردّي)؟ ولِمَ أعود؟ لقد اكتست حياتي ثوب الملل وطغت عليها صبغة الكآبة وأسدل عليها ستار الرتابة والتكرار والسأم. نعم أنا فتاة مثالية بشهادة أهلي ووالدي الحنونين وبشهادة أقاربي وأصدقائي الذين لا أتوانى عن بذل جهدي في مساعدتهم والوقوف معهم في السرّاء والضرّاء. أنا مثالية بشهادة مدرستي ومعلّماتي وما شهادات التقدير المعلّقة على الحائط إلاّ دليل دامغ على ذلك، بشهادة نفسي التي نهيتها عن ارتكاب المحرّمات وصرفتها عن إتيان الصغائر والكبائر، بشهادة نفسي التي كسوتها بلباس التقوى ورداء العفّة ووشاح النقاء والطهر، بشهادة نفسي التي عزمت واعتزمت أن أسخّرها لخدمة دين اللّه، وأبذلها سعيا وراء كلّ طاعة ودحرا لكلّ معصية، بشهادة نفسي التي جعلت منها قدوة لزميلاتي حتى أصبحت لديهم الناصح الأمين والمستشار المؤتمن، بشهادة..... ولكن مهلا إنه يعاود إرسال رسالة أخرى (أختاه أرجو أن تردّي هل تسمحين بأن نتعارف؟). ما أروع هذه الكلمات، يبدو لي أن من يرسلها لا يقلّ التزاما ومثالية عنّي، ولِمَ لا؟ لن أسمح إلاّ بالحوار الهادئ الرصين الملتزم في حدود ما أحلّ اللّه وبعيدا عن نواهيه. الاسم... السنّ.. المرحلة الدراسية...... انطفأ الحاسوب وأطفأت أنوار الغرفة، ما أروع هذا الحديث الذي دار بيننا، إنه شخصية رائعة ملتزمة رصينة، لن أنام ليلتي، أودّ أن أستعيد كلّ عبارة ،كلّ جملة، بل كلّ حرف كتبناه معا. يا له من شعور مبهر باهر رائع وأنا أجد من يوافق أفكاري ويحمل ذات مبادئي ويسترسل معي في هذا الحديث الممتع. مضت الأيّام والأسابيع والشهور، ربّاه لم أعد أحتمل غيابه عنّي، لم أعد أطيق انتظار لقائه، لم أعد أقوى على فراق كلماته، ربّاه إلى أين أسير؟ وفي أيّ الدروب أمشي؟ وكلّ هذه الساعات التي أقضيها معه وأخدع بها أهلي بأنّي أذاكر وأدرس وأمضي الوقت في مراجعة دروسي. دروسي.. وماذا عن دروسي ومذاكرتي؟ ما عدت أذكر منها إلاّ أشباحا عالقة في الذهن، كلّما حاولت المكوث أمام كتبي تخطفني الذكريات وتحلّق بي الآمال وأنا استعيد كلماته كلمة كلمة بل حرفا حرفا. وماذا عن أهلي وأقاربي وصديقاتي الذين اعتزلتهم وأصبحت أمضي جلّ وقتي معه؟ وماذا عن معلّماتي اللاّتي... لكن المرّة الأخيرة كان حديثه أروع وكلماته أجمل وحرارة مشاعره أقوى، لقد اعترف لي بحبّه، إنه يحبّني ويتعلّق بي مثلما تعلّقت به ولا يطيق فراق الحاسوب للقائي، لقد طلب منّي طلبا غريبا في آخر مرّة، طلب أن يأخذ رقم هاتفي لنتحدّث. رقم هاتفي؟ هل هذا معقول؟ هل ستسمح لي تربيتي وأخلاقي بهذا؟ هل يمكن أن أقدِّم هذا التنازل؟ ولكن لِمَ لا؟ أما يمكن أن يقضي هذا على حالة التشتّت التي أصابتني ويوضّح صورة هذا الإنسان المجهول أمامي ويقلّل من تفكيري فيه، سأتّصل به أنا، لقد أعطاني رقم هاتفه، لقد حفظته عن ظهر قلب. ياااه ما أروع صوته ورقّة نبراته وعذوبة عباراته، لن يسعني إلاّ أن أتّصل به وأتواصل معه يوما بعد يوم. اليوم هو يوم لقائي الأوّل به، لقد حدّد لي مواصفاته وهيئته، سأنتظره هنا في هذا المكان العام، نعم إنه مكان عام لا غبار عليَّ في ذلك، لكنني كذبت، كذبت على أهلي، كذبت على أمّي وأبي لأجد حجّة لخروجي، ادّعيت مرض إحدى صديقاتي اللاّتي كنت أزورهن وأقوم بواجب صداقتي إزاءهن، لقد تبدّل حالي، أكذب وأخادع وأنفرد بنفسي لساعات أصاحب خواطري وأستجيب لشهوات نفسي وأتهرّب من صديقاتي وألوذ بالفرار من أعينهن المتسائلة عن تبدّل حالي وتدهور مستواي في الدراسة وفقدي لكافّة المراكز التي حقّقتها في الأنشطة. تبدّل حالي فما عدت أساعد أمّي وأفرّ من عيني أبي وأضيق ذرعا بحديث ونصح إخوتي، أغلقت باب نفسي دون الجميع وفقدت كلّ شيء حلو في حياتي.. عن المنتدى الإسلامي العام/ نقلا عن موقع صيد الفوائد