تجاوزت شعوب كثيرة- وبدرجات متفاوتة- حالة التخلف التي فرضتها الحقبة الكولونيالية وسوء التسيير بعدها، إلا العرب فإنهم ما زالوا في شدّ ومدّ مع مؤسسة الحكم التي تصنفهم ضمن دائرة السّفه، و هم ما فتئوا يتآمرون عليها، لأنها لم تتخلّص من عاهة اللاشرعية التي يعتبرونها سببا مباشرا في تخلفهم المركّب . راية الكفاح المزيّفة ! ظل الحكم العربي لأكثر من ستين سنة يستدل على وجوده برفعه راية الدفاع عن القضية الفلسطينية وتوجيه موارد الدولة إلى المعركة التي لم يربحها أو التي لن تأتي، بل ما فتئ يروّج إلى فكرة مفادها أنه لولاه لانتهت المسألة في سنواتها الأولى، ويكون حافظ على بقائه كل تلك العشريات، نتيجة اعتقاد الشعوب العربية أن هذا النظام هو فعلا حامي القضية من حالة العدم التي ستحل بها، لو أن تغييرا جذريا حدث لمجموع دويلات الطوائف أو لواحدة كبيرة منها على الأقل، واستغل هذا الفهم الخاطئ لتك الشعوب المسكينة بطيبتها التي تحوّلت مع الزمن إلى غباوة، فألغى مشاريع التنمية من أجندته، وقنّن للنهب المقنّع تحت شعار كبير لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، ولم يكد يمضي حين من الوقت حتى استطاع أن يوصل أقل من عشرة في المائة من رعيته الضالة، إلى التحكّم في خزائن دولته، والتصرف – حسب هواها- في رقاب أبناء شعبه الذين خرّوا مغشيا عليهم، وهم يرون أنه في كل خمس سنين تقريبا، يخرج عليهم أثرياء جدد، يأكلون الأقل ثراء ويزيدون في امتصاص دمائه، بعدما استولوا على كل ثروته الوطنية، وأعادوا توزيعها بأنماط كولونيالية بحتة، أي بكيفية زادت في توسيع مساحة الفقر، وأحرقت البقية الباقية من جيوب الطبقة المتوسطة، الضامنة لاستقرار الحكم في الدول الحديثة، والتي اختفت في ظل نظام الحكم العربي" الديمقراطي الراشد" الذي تخلى عن إتمام دورة التحرر، ولم يخلص أنسجة مؤسسات الدولة من المنهجية الغربية التي كانت سببا في احتلالها واستعبادها ونهبها وقهرها وتخلفها . شعوب القضاء والقدر! الشعوب العربية تختلط لديها السذاجة- في علاقتها بالحكم- بالضعف غير المبرّر، من أجل الأخذ بزمام المبادرة والانتقال- إلى المشهد الأخير- بآخر القضايا، التي ما زالت تجمع الأمتين العربية والإسلامية، بعد أن فرّقت بين دولهما عوامل قوتهما، فالحدود لم تعد جسورا للتلاقي وتبادل المنافع والاندماج، ولغة القرآن الواحدة أصبحت لغات شتى تتزاحم وتتنافر وقد تتقاتل، والدين الواحد المنزل على رسول واحد أصبح أديانا عديدة بتسمية واحدة، وقد تكون الوضعية الراهنة التي تعيشها هذه الشعوب، نتيجة ركونها إلى فلسفة القدَرية في علاقتها مع مؤسسات الحكم أكثر مما هي من صنع ديكتاتورية هذا الحاكم أو ذاك، والذي لا تعرف الأجيال أنه مستبد، إلا عندما يطاح به أو يفتكره الله إلى جواره بعد عمر طويل، فكثير من الحكام إن لم يكن وجودهم في الحكم أطول من عمر الملايين من أبناء بلده الذين شاخوا ومات بعضهم فعائلته السياسية تداول أفرادها عليه، وكأنها ورثته مع مجموع ما ورثت من متاع وجغرافيا حددها" الاستعمار" القديم، مما زرع الشك الدائم لدى الأجيال في كل حاكم يأتي، ولو عن طريق صندوق الانتخاب الذي لم يتخلص من آفة التزوير بل ازداد مناعة من الشفافية والنزاهة مع تكرار المواعيد الانتخابية . شاركت الدول العربية في كل الحروب التي خيضت من أجل فلسطين، بعواطفها ومالها وسلاحها ورجالها، ولكنها أوكلت أمر إدارة المعركة إلى من كانت تعتقد أنهم زعماؤها المرسلون من زمن العزة، فقادوها إلى انكسارات متعددة متفرقة حتى وهي في أوج انتصارها، كما حدث في معركة العرب مع الكيان الصهيوني عام 1973، وما نتج عنه من إعادة التفاف على النصر، ثم خروج مصر من ساحة المعركة إلى ساحة ضيقة، أسمتها النصوص الرسمية وبعض المصريين معاهدة السلام، إلى أن ظهرت مقاومة من صلب هذه الشعوب، واستطاعت في حرب الصهيونية على لبنان عام 2006، أن تثأر للشرف العربي المهان، وتؤكد أن الأمة بخير، وأنها ما زالت تملك أسباب القوة، وأن الضعف الذي سكن بعض العواصم العربية، ليس إلا خوفا لصيقا بقادة تلك المدن المستباحة، خوفا على كراسيهم ومصالحهم وما يجنونه نظير فرض الجبن بالقوة على أمة شجاعة، حتى لا تتحرّك نحو الأفق المفتوح أمامها بعد إيهامها أنه أفق مغلق أو مسدود، وفي ظل ضعف أصحاب الكراسي، تمدّد الإخطبوط الصهيوني على فلسطين وقضمها شبرا فشبرا، ولم يبق له إلا أن يعيد تسمية المدن الفلسطينية بأسماء عبرية استلها من أكفان التاريخ، وشرّع لإنهاء ارتباطها بالحقيقة العربية نهائيا، ومع ذلك ما زال الذين يضحك عليهم الغرب بتسمية المعتدلين، مائلين إلى غير وجهة أمتهم، ويركضون عكس الزمن وراء سراب زرعه العنصريون الأكثر تطرفا، ممن يديرون همجية احتلال فلسطين . الوصفات المسمومة ! لا يستحي الحاكم العربي- معظم الحكام- من إعداد وصفة خاطئة للحالة العربية التي تدعو للشفقة، ولم يعد يخفي انحيازه لأعداء من يحكم، بضمان مصالح "الاستعمار"العائد بأوجه جديدة، وفرملة عجلة التنمية بتعطيل أسبابها، إما عن طريق إبطال مفعول الثروات الوطنية بتبذيرها أو هدرها فيما يضر أو تجميدها، وإما عن طريق تحييد الكفاءات العلمية والاقتصادية عن المشاركة في مجهود الدولة العام، وإرغامها على العزلة أو الهجرة، وتسميم الساحة السياسية وجعلها نتنة، إلى درجة لا يمكن معها التأسيس لممارسة ديمقراطية، نمت وازدهرت حتى في أفقر الدول الإفريقية وأكثرها تخلفا، وقد دجّن النخب المتعلمة في مختلف الميادين، فاصطفت خلفه تنادي بصواب ما يراه وإن كان خاطئا، وتدعو إلى رفض ما يقول به غيره وإن كان صائبا، وألبس الزّمر السياسية ثوب الولاء المطلق نظير المشاركة- ولو شكليا- في الحكم أو على حواشيه، وخطّأ كل الأصوات التي تسعى إلى الجهر بالوضع الذي يحمل بذور الانفجار الذاتي، ولم تعد الحركات التي تتحرّك تحت شعار"بركات" هنا، أو"يزّينا"هناك، أو"كفاية"هنالك في نظره ، إلا طوابير في صف الأعداء الذين جعلهم فزّاعة يهدد بها كل حركة سياسية تدعو إلى الحكم الراشد فعلا لا قولا، ويستغبي الأمة عندما يعلن مثلا، أن أسباب منع قافلة إنسانية تحمل الدواء يقودها الداعية السياسي المعروف جورج غالاوي لإغاثة الشعب الفلسطيني المحاصر بالمرض والجوع برا وبحرا وجوا- صهيونيا وعربيا- في غزة، من المرور عبر قناة السويس، هو عدم استيفاء شروط العبور ليس إلا، وكأن الغواصة الصهيونية ذات الرؤوس النووية، التي عبرت القناة العربية قبل قافلة السيد غالاوي بأيام قليلة، استكملت شروط المرور، بل ربما قد نكون جزءا من الترسانة العربية المصرية والشعوب العربية لا تعلم!!! الابتزاز المتبادَل ! ظل النظام العربي يبتز الشعوب العربية إذن كل هذه المدة، بدعوى الاستعداد للمعركة أو الانخراط فيها، وهي التي لم تكن إلا ملهاة أخرى عن بناء الذات، بالانصراف المقصود عن التوظبف الجيد للإمكانيات المالية والبشرية الضخمة المتاحة، والابتعاد المريب عن الإعداد السليم تكتيكيا وتكنولوجيا وإعلاميا، كي لا يتم الدخول في معركة الحق الذي سيكون ضعيفا حتى يهزمه الباطل، كما راحت الشعوب من جهتها تبتز هذا النظام، تارة من خلال الاستقالة التي تتجلى مظاهرها في انخفاض مردودية العمل إلى مستوى هدّد الدولة في وجودها على أكثر من منعطف سياسي، وتارة من خلال الانحياز إلى أطروحات" العدو"قولا أو عملا، ولم تعد تنزعج من الاستيلاء على الحكم عبر دبابة هذا العدو أو طائرته أو ناقلة جنده، وبذلك يكون الحاكم العربي ورعيته الفاعلة المجرورة، يتبادلان الابتزاز الذي راح ضحيته الشعوب المفعول بها والمغدورة، وهو ما يدعو إلى نهضة صادقة من الطرفين، يستعيدان فيها الوعي بما يجري لهما معا، ويحسان بأن تسونامي التغيير إن حل عنوة بمكان، فإنه لا يبقي ولا يذر ... [email protected]