محاكمة القرن كما أُطلق عليها عندما انطلقت في البداية، ثم مهزلة القرن كما رآها آخرون بعد صدور الأحكام على الرئيس المصري المخلوع محمد حسني مبارك وأبنائه وعدد من أركان حكمه، ومع ذلك ستظل تلك المحاكمة تاريخية بكلّ المقاييس، لسبب بسيط أن مبارك شرب من الكأس ذاتها التي سقى منها خصومه سنين عددا؛ فها هو يستلم بدلة السجن الزرقاء ورقما كباقي النزلاء. لقد قضى مبارك الشهور الطويلة الماضية، بعد خلعه، في عيادة صحّية راقية، ويبدو أنّ نظام حياته لم يتغيّر كثيرا كما سرّبت بعض وسائل الإعلام ذلك، ومع أنّ بداية )الفرق( في المشهد العربي المعاصر هي ظهور مبارك في قفص الاتهام يستمع لأسئلة القاضي ويجيب عند المناداة عن اسمه؛ فإنّ )نقطة الانعطاف( قد برزت فعلا في التاريخ العربي المعاصر عندما نقلت طائرة الهيلكوبتر الرئيس المخلوع إلى سجن ليمان طرّة ليدخل العيادة هناك ويستلم رقما وقميصا أزرقا مثل باقي السجناء من أبناء الشعب المصري. المشهد تحوّل بعد ذلك إلى مظاهرات واعتصامات جديدة في جميع أنحاء مصر، والسبب هو تلك الأحكام التي رأت فيها الأغلبية سياسة وخداعا من طرف ما سمّاه أحد المحلّلين )الدولة العميقة( حيث بقايا نظام حسني مبارك في جميع مفاصل المؤسسات الرسمية. لقد غضب الشباب المصري، وحقّ له أن يغضب، وهو يرى أحكاما بالمؤبّد على الرئيس المخلوع ووزير داخليته حبيب العادلي، وهما طاعنان في السنّ، بينما جاءت الأحكام بالبراءة على نجلي الرئيس جمال وعلاء ومساعدي وزير الداخلية أيضا.. لعبة رأى فيها المصريون صورة قاتمة للمستقبل حين يعود هؤلاء )الأبرياء( إلى الواجهة السياسية والاقتصادية عبر أكثر من سبيل. نعم.. حقّ للمصريين أن يغضبوا لأن الأحكام التي صدرت قزّمت القضية من أساسها؛ فالتّهم حامت حول أوامر بإطلاق الرصاص الحيّ وقتل المتظاهرين أثناء أحداث مطلع العام الماضي في القاهرة ومدن مصرية أخرى، لكنّ القضية الأساس التي يعرفها كل مواطن، اكتوى بنار الظلم والحرمان، هي مصير شعب ودولة كاملة اختطفتها مجموعة من الناس على مدى ثلاث عقود. ماذا يعني مصطلح الخيانة العظمى مثلا غير ما عرفه الشعب المصري وكشفت عنه الوثائق والأرقام بعد سقوط حسني مبارك.. إنه زواج غير شرعي بين عصابات اقتصادية وأخرى سياسية، وكان الناتج وليدا غير شرعي يسمّي نفسه دولة ونظاما ويرفع شعارات برّاقة ويتلو خطبا رنّانة، ومن وراء الستار يحاول الاستحواذ على كلّ شيء في الأرض والجوّ والبرّ والبحر. ماذا تعني الخيانة العظمى غير إيقاف عجلة النموّ الحقيقي في دولة مثل مصر ورهنها لقرارات ومصالح دول أجنبية، وفرملة دورها الإقليمي الحقيقي في نصرة القضية الفلسطينية وإبعادها عن دور الريادة، مع دول أخرى، في مسار العمل العربي المشترك. إنّ احتكار السلطة وحده جريمة كبرى في حق الشعب لأنه مصادرة للطاقات والقدرات، وتجميد لعجلة التطور الذي يحدث في العادة عندما يتداول المؤهّلون على الكراسي، ومن هناك تتنوع البرامج والخطط، وتنمو الأفكار النافعة، وينزوي الانتهازيون والوصوليون في جحورهم بعد أن تجرفهم التغييرات الجذرية التي تحدث على مستوى القمّة. إن جريمة محاولة قتل شعب وأمة كاملة لا ينبغي أن تكون بين يدي نائب عام من الطراز العادي، ولا أن يدرس أوراقها وملفّاتها الضخمة قاض تعوّد على روتين عمله على مدى ثلاثة عقود، وحتى فريق الدفاع عن الأمة والشعب لا بد أن يكون مميزا إلى حدّ كبير.. إن قضية مبارك وأمثاله في حاجة إلى محاكمة من طراز خاص سواء أُطلق عليها ثورية أم لا.. لكنها محاكمة تضع في حسابها سنوات طويلة من الاستبداد والفساد والقهر والاندماج في مخططات القوى الأجنبية والعزوف عن أي خطوة حقيقية نحو بناء جادّ للدولة. العجيب الغريب في المحاكمة أن المنفّذين المفترضين لجرائم قتل المتظاهرين خرجوا أبرياء، وهم أعوان وزير الداخلية، بينما أُدين مبارك والعادلي، وهكذا ترك الحكم حلقة مفقودة في سلسلة الترابط المنطقي لما حدث؛ فإذا كان الرئيس المخلوع ووزير داخليته قد أدينا في هذه القضية، فكيف نفّذا ذلك؟ أليس عن طريق أولئك الأعوان المُبرّئين من طرف المحكمة؟ وإذا كان التنفيذ عن طريق غيرهم، فأين هؤلاء؟.. لم يبق سوى احتمال واحد وهو أن الرئيس ووزيره هما الآمر والمنفّذ، أيّ أنهما نزلا ميدان التحرير فعلا ومارسا جريمة إطلاق النار مباشرة على المتظاهرين!! ومع كل ما سبق يظل ظهور حسني مبارك في قفص الاتهام، ودخوله سجن طرّة واستلامه بدلة زرقاء ورقما، عنوانا لمرحلة جديدة في بلداننا العربية، وصورة من صور القصاص بعد عقود ذاقت فيها الشعوب الويلات على يد عدد معتبر من الحكّام الجلاّدين. قبل فترة مبارك حدث نوع من تصفية الحسابات بين )رفاق الثورة(، وهكذا شهد أحد السجون المصرية قصة طريفة، حيث حضرت امرأة لزيارة زوجها السجين ومعها بعض الطعام، وفي البوابة منعها الحارس من إدخال أي شيء للسجن، وصاحت المرأة محتجّة بأن الطعام لوزير الداخلية السابق، وكانت المفارقة عندما قال الحارس بعفوية: والله السيد الوزير هو الذي أصدر هذا القرار عندما كان في الوزارة.. ودون شماتة يمكن القول إن مبارك قد تذوّق فعلا بعض ما جنت يداه على مدى عقود حكمه الثلاثة، وقد ينتقل الرجل إلى العالم الآخر بعد أن تداولت وسائل الإعلام أخبار تردّي حالته الصحية، ومع ذلك سيظل الرقم والبدلة الزرقاء عبرة لمن أراد أن يعتبر، فيتصالح مع شعبه قبل فوات الأوان.