من بين نشاطات الوزراء المعينين حديثا في حكومة الوزير الأول عبد المالك سلال، كانت خرجة السيد محمد شرفي وزير العدل حافظ الأختام بمناسبة انعقاد المجلس الأعلى للقضاء هي الأكثر لفتا لانتباه الإعلام والرأي العام الوطني - ليس فقط للدور الهام الذي يضطلع به القضاء أو يفترض أن يلعبه - وإنما بالذات للخطاب الواضح والصريح الذي حمله وزير العدل القديم الجديد، الذي غادر الوزارة في ظروف وملابسات يعرف الجميع أن لا علاقة لها بكفاءة الرجل ولا بأدائه المتميز، وفي سياق أقل ما يقال فيه أنه مضطرب غلبت عليه تصفية الحسابات السياسية والشخصية· نبرة الصدق والشجاعة التي حملها ذلك الخطاب، جعلت الكثيرين يقرأون فيه مؤشرا على نية وعزيمة القيادة السياسية للبلاد الذهاب هذه المرة بعيدا في التأسيس لقضاء عادل نزيه ومستقل يكون بمثابة الضمانة لكل الأفراد والمؤسسات بأن دولة الحق والقانون لن تبقى هدفا تنشده الأجيال وأن الإصلاحات السياسية الجارية سيكون ضمنها ومن أولوياتها تعزيز آليات محاربة الفساد وفي مقدمة ذلك القضاء الذي يتحمل العبء الأكبر في هذا التحدي· بعيدا عن سياسة الهروب إلى الأمام وعن ذهنية رمي الكرة في الجانب الآخر من الملعب، أقر وزير العدل ابتداء بأن القضاء ذاته، لا يخلو من شياه شاردة ولا يشكل استثناء من هذه الآفة التي استحكمت في مفاصل المؤسسات والأفراد مما أثر سلبا على سلم القيم وضرب المجتمع في غور أعماقه ولحمته، والشاهد الملفت في تحليل السيد الوزير وتشخيصه لوضعية القضاء، أنه لم يكتف بتوجيه أصبع الاتهام للعناصر الفاسدة في سلك العدالة، وإنما بالموازاة مع ذلك، أكد أن هناك أطرافا أخرى تتدخل في عمل القضاة وتمارس ضغوطا عليهم ويتعين أن تتوقف ويوضع لها حد لتمكين القضاة من أداء مهمتهم النبيلة وفقا للقانون ولضمائرهم دون سواها·
إن دعوة السيد الوزير إلى ضرورة توفير الحصانة للقاضي من كل تدخل أو تشويش عليه، إنما هو بداية الطريق نحو قضاء مستقل بالفعل لا بالقول فقط، فإذا كان القضاء قد عانى في الماضي من طفيليين على هذه المهنة الشريفة والأساسية في الاستقرار والأمن الاجتماعي، بل ومن نقص فاضح الكفاءات والتكوين، فإنه بعد الإصلاحات التي باشرها الرئيس بوتفليقة في هذا القطاع وبعد أن باتت مدرسة تكوين القضاة تدفع سنويا بالمئات من المتخرجين علاوة على دورات التكوين والتربصات بالداخل والخارج لم يعد هناك مكان لقاض لا يدرك أبعاد الدور الأساسي والمحوري الذي يعود إليه في إرساء دولة القانون ودولة العدل، القاضي الذي لا يغير على مهنته الشريفة وعلى استقلاله عن المؤثرات الخارجية، إن كانت بالترغيب أو بالترهيب ليس له مكان في سلك القضاء ويتوجب عليه مراجعة مسيرته ومحاسبة نفسه·
عودة وزير العدل نفسه إلى قيادة مقاليد القطاع تكشف فيما تكشف أن الكفاءة والنزاهة وحدهما القادرتان على اجتياز المراحل الصعبة والفترات المضطربة، والقاضي الفطن الذكي بمقدوره استخلاص الدرس والاستنتاج بأن الطريق الأقصر والأسلم لحياة إيجابية مطمئنة فاعلة هو الطريق المستقيم، ذلك الطريق الذي لا يحكمه إلا القانون والضمير· كثيرون هم أولئك الذين يسألون ويتساءلون بعد الإشارة القوية من وزير العدل حافظ الأختام، هل الجزائر بصدد الدخول في مرحلة جديدة غير معلنة رسميا في محاربة الفساد والمفسدين، وهل أن القضاء ستكون يده طويلة في المرحلة الجديدة لملاحقة الفاسدين والضالعين ومن يوفرون الغطاء لهم··· ذلك ما ستجيب عليه الأيام·