لسنوات طويلة بقيت المملكة العربية السعودية مختزلة في كونها أرض الحرمين الشريفين، بلد يقصده ملايين المسلمين لأداء فريضة الحج التي تمثل الركن الخامس للإسلام، وهي أيضا في أذهان كثير من الناس بلد غني بالنفط يعيش سكانه حياة الرفاه، وتغطي هذه الصورة النمطية على كثير من الحقائق السياسية والاقتصادية التي باتت ترسم وجه هذه الدولة التي تمثل إحدى الدول الفاعلة على الساحة العربية، ومن هنا كانت زيارة المملكة إغراء لا يقاوم، فليس هناك أفضل من المعاينة للاقتراب من الحقيقة. كانت الساعة الثالثة فجرا عندما حطت الطائرة بمطار الملك خالد الدولي بالرياض، إجراءات الدخول بدت بطيئة، كل داخل إلى المملكة العربية السعودية سيتم تصويره بشكل آلي وتؤخذ بصماته، إجراء روتيني درجت كثير من مطارات العالم على تطبيقه منذ هجمات الحادي عشر سبتمبر في الولاياتالمتحدةالأمريكية، ومن الوهلة الأولى بدت الإجراءات الأمنية مشددة، بعد قرابة ساعة انتظار طلب رجل أمن من القادمين في إطار زيارة الوقوف في طابور خاص، ولم يكن عدد المعنيين بالأمر يصل عشرة أشخاص، فأغلبية الوافدين هم من العمالة الأجنبية التي تقيم في السعودية، أو من المواطنين الذين لديهم منفذ خاص إلى جانب رعايا دول مجلس التعاون الخليجي، فالرياض لا تجذب السياح على ما يبدو على عكس جدة والمدينة المنورة التي تشهد تدفقا مستمرا لملايين المسلمين الذي يأتون لأداء العمرة خارج موسم الحج. كنت قد قضيت ساعتين في الطابور عندما وصل دوري ليلتقط لي رجل الأمن صورة ويأخذ بصماتي، اجتهد أن يكون ودودا، سألني عن مهنتي، وحدثني عن حبه للصحافة ورغبته السابقة في ممارستها، صمت قليلا ثم طلب مني الانتظار بعض الوقت قال بلهجة محليةس النظام علقس لم أفهم قصده، فشرح لي بأن الرد بالقبول أو الرفض لم يأت وأنه لا يستطيع أن يختم جوازي أو يكمل إجراءات الدخول قبل أن يتلقى الرد، وفهمت لاحقا أن النظام مرتبط بشكل مباشر بوزارة الداخلية وأن البصمات يتم إرسالها بشكل فوري لفحصها والتأكد من أن صاحبها ليس مطلوبا أو ممنوعا من دخول المملكة، ولا يملك رجل الأمن إلا الانتظار إلى حين تلقي الرد. كان هذا التفصيل صادما لي منذ اللحظة الأولى، فالانتظار قد يطول، وبالنسبة لي كنت مضطرا للبقاء ساعتين أخريين قبل أن أغادر المطار، غير أن رجل الأمن اجتهد في طمأنتي، بحسه الأمني فهم أنني غير مقتنع بالرواية، ابتسم وربط شكوكي بوساوس الصحافة، وأصر على القول أن الأمر كله مجرد عطل تقني يتكرر بين الحين والآخر، أما ممثل الإعلام الخارجي الذي أرسلته وزارة الإعلام والثقافة السعودية لاستقبال الوفد الإعلامي الجزائري الذي يضم خمسة صحافيين فقد فضل أن يرافق زملائي الأربعة إلى مقر إقامتهم ويعود وكأنه كان يعلم أن المسألة ستطول، سألته عن حقيقة ما يجري رد بهدوء أن الأمر عادي وزاد بالقول هناك أشخاص ينتظرون منذ عشر ساعات، بدا الأمر بالنسبة لي مريعا، فقد قضيت قرابة عشرين ساعة بين مطارات الجزائر والقاهرة والرياض ولن أحتمل المزيد، سألته : وإذا لم يجب هذا النظام خلال يومين هل يعني هذا أنني سأبقى هنا ليومين آخرين ؟ قال لي لا أحد بإمكانه التدخل، حتى الموظف الذي يعالج الحالة سيكون مضطرا للبقاء هنا، قلت لا بد أن يكون هناك حل لهذه المشكلة، فالإجراءات الأمنية المشددة التي تقرها المطارات الأوروبية والأمريكية لا تصل إلى هذا الحد، والصرامة لا تقتضي ترك أشخاص أنهكهم سفر طويل ينتظرون ساعات بدعوى أن النظام لم يقدم الرد، غير أن مرافقي حافظ على هدوئه وأراد أن يقنعني بأن التحديات الأمنية التي تواجهها السعودية أكبر من تلك التي فرضت على الدول الغربية، سألته هل تشعرون بأنكم مهددون أكثر من أمريكا رد بدون تردد نعم أكثر. منذ اللحظة الأولى بدا الهاجس الأمني متجليا، فقد تعرضت السعودية لموجة من الهجمات المسلحة استهدفت في البداية الأجانب وكان أهمها الهجوم على القاعدة الأمريكية في الظهران في سنة 6991 الذي أسفر عن مقتل تسعة عشر عسكريا أمريكيا وجرح 273 آخرين، وتوالت الأحداث في السنوات اللاحقة، حيث شهدت العاصمة الرياض عدة عمليات نسبت إلى تنظيم القاعدة، كما تعرض وزير الداخلية الأمير نايف بن عبد العزيز لمحاولة اغتيال في صيف سنة ,1102 ورغم أن السعودية لم تشهد خلال السنوات الخمس الأخيرة أي أحداث أمنية مهمة فإن الحرب على التطرف ومن يوصفون بالفئة الضالة لم تتوقف. لقد شكلت هجمات الحادي عشر سبتمبر صدمة كبيرة للسعودية أيضا، فقد كان 51 من 91 شابا نفذوا عملية اختطاف الطائرات وتفجيرها يحملون الجنسية السعودية، وفي البداية كان هناك تشكيك في حقيقة الرواية الأمريكية، وقد قال يومها وزير الداخلية الأمير الراحل نايف بن عبد العزيز إنه لا يعتقد بوجود سعوديين ضمن المختطفين وأن أسامة بن لادن ليس له أنصار في المملكة، غير أن نايف نفسه تولى فيما بعد محاربة القاعدة وتعرض كنتيجة لذلك لمحاولة اغتيال في أواخر سنة .1102 الموقف تغير كثيرا الآن، فالحديث عن القاعدة يتم بشكل مباشر من قبل المسؤولين الأمنيين، ويقول المتحدث باسم وزارة الداخلية اللواء منصور بن سلطان التركي الذي التقيناه في نادي ضباط قوى الأمن، أن فكر القاعدة يتسلل إلى المجتمعات الإسلامية وهو يستغل الظروف من أجل تجنيد الشباب، وخلال جلسة مطولة مع مجموعة من المسؤولين عن برنامج المناصحة والرعاية الذي يستهدف إعادة إدماج الأشخاص المتورطين في نشاطات القاعدة تم شرح التجربة السعودية في مكافحة الإرهاب، وقد أعطى الدكتور عبد الرحمن الهدلق، وهو مستشار لدى وزير الداخلية، مفهوما آخر لمكافحة الإرهاب يقوم على المزاوجة بين العمل الأمني الميداني والعمل على محاربة أسباب التطرف من خلال عمل اجتماعي عميق. المناصحة والرعاية.. تأمين الفكر ومحاربة التطرف أحد أهم الإنجازات التي تقدمها السعودية في مكافحة الإرهاب هي مركز محمد بن نايف للمناصحة والرعاية، ويتولى هذا المركز التكفل بالمتورطين في النشاطات الإرهابية بعد محاكمتهم حيث يخضعون لبرنامج مكثف يتضمن تصحيح الأفكار وإعادة إدماج المستفيدين في المجتمع، ويفاخر القائمون على المركز بالقول إنه من أصل 0032 مستفيد من هذا البرنامج لم يعد إلى النشاط الإرهابي إلا 73 شخصا، وأنه من أصل 021 سعوديا عادوا من غوانتنامو واستفادوا من البرنامج لم يعد إلى العمل المسلح إلا 11 خرجوا إلى اليمن عاد منهم اثنان وقتل اثنان وبقي سبعة ينشطون في صفوف القاعدة. الهاجس الأمني يتقاطع مع هواجس أخرى، فقد ولدت هجمات الحادي عشر سبتمبر ضغطا خارجيا شديدا على المملكة، ويشعر السعوديون بحساسية موقفهم، فهناك اتهامات صريحة للمملكة بأنها تصدر الفكر المتطرف من خلال المؤسسة الدينية المحافظة ذات النفوذ القوي، ويجتهد المسؤلون والمفكرون أيضا في تبرئة ذمة السعودية من انتشار الفكر التكفيري، ولا يتردد الدكتور عبد الرحمن الهدلق في القول إن أسامة بن لادن أخذ التطرف عن المصريين، ويستطرد، لقد تأثر بن لادن بشباب خريجي سجون من بلدان أخرى لديهم فكرة التكفير، وكونه من المنطقة الغربية فقد كان قريبا من المصريين الذين أخذ عنهم الفكر التكفيري، ويبدو هذا التبرير منسجما مع السعي إلى الحفاظ على القيم السائدة في المجتمع السعودي، ويجري إقحام المؤسسة الدينية بشكل مباشر في مكافحة التطرف من خلال إشراك هيئة كبار العلماء في برنامج المناصحة والرعاية، ويقول الدكتور ناصر العبيد المختص الشرعي بالمركز إن البرنامج الشرعي جزء أساسي لمواجهة من يسمون الفئة الضالة، فهم يعتقدون أن الجهاد ضرورة بناء على فتاوى أهل العلم الذين انضموا إليهم، وهناك عمل مستمر ومنهجي لتصحيح هذه المفاهيم ورد الشبهات التي وقع فيها هؤلاء، وتدخل مساعي الإقناع هذه فيما يسمى استراتيجية الأمن الفكري، فالمبدأ الذي يقوم عليه مركز محمد بن نايف بسيط وواضح، الفكر لا يحاربه إلا الفكر. لقد تزامن تواجدنا بالسعودية مع تحذير مفتي المملكة عبد العزيز آل الشيخ الذي يرأس هيئة كبار العلماء ودائرة البحوث والإفتاء، من دعوة الشباب السعودي إلى التوجه إلى سوريا للمشاركة في الجهاد واعتبر أن الدعاء لسوريا أفضل من الجهاد فيها، ويفسر السعوديون هذا الموقف بالتجربة السابقة حين توجه مئات الشباب السعوديين للقتال في أفغانستان ليعود بعضهم مشحونا بأفكار متطرفة، وتكرر الأمر بعد الاحتلال الأمريكي للعراق سنة ,3002 ويقول السعوديون اليوم إنهم لن يسمحوا أبدا بتكرار هذه التجربة، وهم يغلقون كل المنافذ أمام المتحمسين للجهاد خارج حدود المملكة، وحتى عمليات جمع التبرعات تجري تحت الرقابة المشدد للسلطات التي تقول إن هذه الأموال هي تبرعات إنسانية موجهة للاجئين السورييين في دول الجوار. التداخل الشديد بين المؤسسة الدينية والسلطة السياسية جعل موقف المملكة متأرجحا بين الرغبة في محاربة التطرف في الداخل والتبرير الديني للسياسة الخارجية، فالرياض تلعب دورا أساسيا في الأزمة السورية غير أنها لا تريد أن تكون لهذه الأزمة أي تداعيات على الداخل السعودي، وهي لا تريد أن تزعزع التوازنات القائمة في الداخل بين المؤسسة الدينية والمؤسسة السياسية لكنها في المقابل تريد أن تقدم صورة مغايرة لتلك التي تسوقها وسائل الإعلام الغربية عن دولة تنتهك فيها حقوق الإنسان وتكبت فيها الحريات الفردية والجماعية، والرد على هذه الاتهامات بات من الأولويات، وحتى مركز محمد بن نايف لا يغفل هذا الأمر حيث يشير العقيد عبد العزيز العبيد إلى أن المركز استقبل 042 وفدا عالميا منذ تأسيسه وقد تم إطلاع الزوار على وضعية المستفيدين من البرنامج للرد على تهمة التعذيب وخرق حقوق الإنسان التي توجه للسلطات السعودية ولا يقتصر ضغط الخارج على تهم التعذيب وخرق حقوق الإنسان، بل يتعداه إلى المطالبة بتعديل مناهج التدريس، وهو أمر أثارته الولاياتالمتحدة بعد أحداث الحادي عشر سبتمبر، وبرأي المسؤولين في المملكة فإن المناهج الدراسية لا تدعو إلى التطرف لكن هناك بعض المعلمين يستغلون مناصبهم لنشر أفكارهم المتطرفة، ويبدو أن هناك رقابة مستمرة، كما أن العائلات أصبحت تقدم المساعدة من خلال الإبلاغ عن تصرفات بعض المعلمين أو حتى من خلال التنبيه إلى وجود سلوك مشبوه لدى أبنائهم. المعادلة الأمنية في المملكة تبدو معقدة، فالقيم الدينية السائدة لا تسمح بإحداث خلخلة كبيرة في المجتمع وتجعل مكافحة التطرف مرتبطة بشكل مباشر بالضوابط الدينية المتبعة في البلاد، وفي مقابل هذا يحتفظ الدعاة والوعاظ والفقهاء ومن يوصفون بأهل العلم بتأثير كبير على المجتمع، وآراء هؤلاء قد تدفع باتجاه آخر غير الذي تريد الحكومة السير عليه، وقد زادت ثورة الاتصالات في نفوذ هؤلاء وقلصت من قدرة الحكومة على مراقبتهم، ولهذا السبب تتحرك المؤسسة الدينية الرسمية ممثلة بهيئة كبار العلماء لإصدار فتاوى تنسجم مع الموقف الرسمي كما حدث مع قضية الدعوة إلى الجهاد في سوريا، غير أن حراكا من نوع آخر يدفع باتجاه تغيير التوازنات القائمة ولو بعد حين. الانفتاح على الآخر.. خطوات على طريق التغيير الهادئ الدكتور عبد العزيز بن سلمة هو وكيل وزارة الثقافة والإعلام للإعلام الخارجي، درس في أمريكا وفرنسا حيث حصل على شهادة دكتوراه في الإعلام الدولي وعمل مندوبا دائما للسعودية باليونيسكو في باريس لست سنوات، يتحدث الإنجليزية والفرنسية، وهو ذو ثقافة واسعة، يختزل صورة جيل جديد من المسؤولين في السعودية درسوا في أرقى الجامعات الغربية وعادوا إلى بلادهم يحملون تصورات جديدة، وقد كان الحديث أول مرة مع الدكتور بن سلمة قد دار حول البعثات الطلابية السعودية إلى الخارج حيث يبلغ عدد المستفيدين من هذه البعثات أكثر من 021 ألف طالب يدرس معظمهم في الجامعات الأمريكية والبريطانية وتتوزع البقية على مختلف الجامعات الأوروبية والآسيوية، وهؤلاء استفادوا من برنامج الملك عبد الله بن عبد العزيز للابتعاث الخارجي. الهدف المعلن رسميا لهذا البرنامج الضخم هو »إعداد الموارد البشرية السعودية، وتأهيلها بشكل فاعل؛ لتصبح منافساً عالمياً في سوق العمل ومجالات البحث العلمي ورافداً مهماً في دعم الجامعات السعودية والقطاعين الحكومي والأهلي بالكفاءات المتميزة«، غير أن المسؤولين السعوديين يشيرون إلى الرغبة في الانفتاح على ثقافات الآخر وقيمه وتطعيم الثقافة المحلية بالقيم الإنسانية، والخلاصة أن ما يجري هو دفع المجتمع نحو التغيير بطريقة هادئة، ولعل هذا الأسلوب هو الوحيد الذي يمكنه أن يحدث تحولا في مجتمع محافظ يراقب بشيء من التوجس ما يجري حوله من زلازل تغير معالم المنطقة. الاستقرار رديف للأمن، غير أن العالم يتغير بسرعة، وفي بلد يواكب ثورة الاتصالات من الصعب غض الطرف عما يجري خارج الحدود، فأينما وليت وجهك في المملكة وجدت الناس يفحصون هواتفهم الذكية، يقرأون رسائل ويعلقون، وليس غريبا بعد ذلك أن تكون السعودية ضمن عشرة دول أكثر تغريدا على التويتر، وليس غريبا أيضا أن يكون التغريد هو أحد أساليب التعبير عن المواقف السياسية في بلد يبدو سطحه هادئا. ما نقرأ ونسمع عن السعودية هو مطالب الحرية التي ترفع بجرأة متزايدة، تركيز على وضع المرأة وحقوق الإنسان والحريات الفردية والجماعية، غير أن هذه المطالب قد لا ترى بالضرورة عند زيارة المملكة، فالنزعة الاحتجاجية لا تبدو من سمات المجتمع، ربما تكون الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وهي على العموم مستقرة، سببا في تمتع السعوديين بطول النفس وميلهم إلى التعويل على عامل الزمن لإحداث التحول المنشود، إلا أن النخب قد تكون أكثر استعجالا، وهكذا تثار بين الحين والآخر قضايا الحريات وحقوق الإنسان، وقد تتسبب تغريدة على التويتر في إحالة صاحبها إلى السجن كما حدث مع الكاتب الصحفي تركي الحمد الذي يواجه تهمة الإساءة إلى الدين، وقد يمنع ناشط مثل وليد أبو الخير من السفر إلى الخارج لتسلمه جائزة مكافأة له على نضاله دفاعا عن حقوق الإنسان دون أن يعني ذلك غلق مجال النشاط والحركة أمام هؤلاء، فما يجري يبدو مثل تذكير بالخطوط الحمر أو رسالة تفيد بأننا لا زلنا هنا ولا مجال لنشر الفوضى، وفي مقابل هذا يتم اعتماد سياسة الباب المفتوح انطلاقا من قناعة راسخة بأن التغيير آت لا محالة وسيكون فتح الأبواب والنوافذ بشكل منهجي أفضل من انتظار العواصف التي قد تقتلع كل شيء. ليس كل ما يقال عن أوضاع المرأة صحيحا، فمسألة السماح للنساء بقيادة السيارات ،والتي تثار باستمرار في وسائل الإعلام العربية والغربية لا تبدو قضية محورية، ويمكن أن نقرأ يوميا في الصحافة السعودية سجالا حول حدود الحرية، ومن المبالغة الحديث عن إجماع حول هذه القضايا، فالمجتمع لا يزال متمسكا بقيمه، وليست السلطة السياسية هي من تفرض هذا الطابع المحافظ الذي يتجلى في كل مناحي الحياة، ومن هنا يبدو حديث الحرية سجالا فكريا بين أفراد النخبة في حين يبقى المجتمع يراقب بهدوء، إذا كانت بعض النساء السعوديات يخضن نضالا من أجل توسيع هوامش الحرية، فإن عامة النساء يعشن حياة طبيعية، يعملن ويتسوقن ويقضين معظم أوقات المساء خارج البيت في أجواء عائلية ليس فيها ما يوحي بالتذمر أو الملل. هذا الهدوء لم يمنع السلطة السياسية من السعي إلى الاستجابة لمطالب الخارج الضاغط وقد تم تعيين ثلاثين أمرأة في مجلس الشورى من أصل 051 مقعدا، غير أن دخول المجلس سيكون من بوابة خاصة بالنساء اللاتي يجلسن في أماكن يفصلها ساتر زجاجي عن مكان جلوس الرجال، وتعكس هذه الطريقة في إدخال المرأة إلى الحياة السياسية محاولات التوفيق بين الاستجابة لضغط الخارج وشروط التوازنات الداخلية التي تحكمها قيم المجتمع، فالحكومة لا تمسك بكل الخيوط حتى وإن كانت صلاحيات الملك تبدو مطلقة، فمنذ نشأة المملكة كانت المؤسسة الدينية تلعب دورا أساسيا في السياسة، ولا يزال الوضع على نفس الحال حتى وإن بدت كفة هذا الطرف أو ذاك ترجح من حين لآخر، ووضع المرأة تحديدا لا يخضع لخيارات السلطة السياسية أو المؤسسة الدينية فحسب بل يرتبط بقيم المجتمع أيضا. هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تمثل إحدى الهيئات الأساسية التي ترسم حدود الحريات الفردية والجماعية، وظيفتها السهر على احترام أحكام الشريعة، والحقيقة أنها تحافظ على ما يعتبر مظهرا إسلاميا للحياة في المملكة، وعبر أعضائها تراقب سلوك الأفراد في الأماكن العامة، تلزم النساء بارتداء اللباس المحتشم، وتراقب مدى احترام إغلاق المتاجر في أوقات الصلاة، غير أنها تتجاوز كل هذا إلى توجيه الناس في أفكارهم، تنشر لافتات لتصحيح ما تراه عقائد فاسدة، وتقتحم المواقع التي قد تصلها معلومات عن كونها أوكارا لممارسة الرذيلة، وهذه المهام هي التي جعلت هذه الهيئة تنال وصف الشرطة الدينية في وسائل الإعلام العربية والغربية. الهيئة كما تسمى اختصارا، تعكس ذلك الحرص على النقاء الفكري والمذهبي في السعودية والذي يمثل بعدا مهما في مفهوم الأمن أو كما يدعى الأمن الفكري، وحتى إن كانت وسائل الإعلام المحلية تتحاشى الحديث علنا عن وجود طوائف في البلاد فإنها لا تفوت الفرصة لانتقاد إيران واتهامها بالسعي إلى نشر الفتنة، وقد ألصقت كل الاحتجاجات التي شهدتها المنطقة الشرقية من المملكة وخاصة منطقة القطيف بتحركات إيران الرامية إلى مد نفوذها في منطقة الخليج العربي وقلب موازين القوى فيها. »الربيع العربي« والحسابات الإقليمية خلال زيارة لمركز الملك الفيصل للبحوث والدراسات الإسلامية تجلت الهواجس الأمنية في بعدها الإقليمي، والمركز التابع لمؤسسة الملك فيصل التي أنشأها أبناء الملك الراحل تخليدا لذكراه، ليس مركزا متخصصا في الدراسات الشرعية كما قد يشير إليه اسمه، لكنه أقرب ما يكون إلى مركز للأبحاث يهتم بالقضايا الاستراتيجية، وفي حديث مع الأمين العام للمركز يحي محمود بن جنيد كان التركيز على دراسة اعتبرها مهمة جدا وتخص التشيع في إفريقيا، ولم يخف يحيى بن جنيد قناعته بأن إيران تقوم بدور خطير في العالم الإسلامي، وهو ما سمعناه فيما بعد من الأمير تركي الفيصل الذي يرأس مجلس إدارة المركز، والذي سبق أن شغل مناصب حساسة في الحكومة السعودية بدأ من رئاسة الاستخبارات العامة لأربعة وعشرين عاما قبل أن يصبح سفيرا في بريطانيا ثم الولاياتالمتحدةالأمريكية. المركز رغم استقلاليته الظاهرة عن الحكومة فإنه يعكس الاهتمامات الرسمية، وهو يلخص التحديات التي تواجهها المملكة، والأمير تركي الفيصل الذي لا يشغل منصبا رسميا يؤخذ كلامه على محمل الجد، حديثه بدا متركزا على القضايا الأمنية، أشار إلى الدراسة التي أنجزت حول التشيع في إفريقيا، وقفز إلى موضوع الساحل مثيرا الأسئلة حول حادثة اختطاف الرهائن في عين أمناس التي شغلت الدنيا في تلك الأيام، بدا حريصا على الاستماع ودبلوماسيا في حديثه لكن مواقفه واضحة، لا مجال للمهادنة، وبعد أيام قليلة من ذلك اللقاء كان الأمير يتحدث بكل صراحة في ملتقى دافوس الاقتصادي عما يجب فعله في سوريا، قال إن المطلوب هو تسليح المعارضة السورية من أجل إحداث الفارق على الأرض، أكثر من هذا ذهب إلى حد القول بأن الأسلحة المطلوبة يجب أن تكون متطورة لتحييد دبابات وطائرات الجيش السوري التي تشارك في الحرب على المعارضة، هذا هو السبيل لإنهاء حكم الرئيس السوري بشار الأسد، وبعد التصريحات ثار بعض الجدل، قيل إن الأمير وجه بعض اللوم لحكومة بلاده لأنها لم تقدم ما يجب من أسلحة للمعارضة، لكنه عاد ونفى ما نسب إليه واعتبره قراءة مجتزأة لتصريحاته. الموقف من سوريا وما يسمى بثورات الربيع العربي كان الموضوع المفضل الذي يسأل عنه الصحافيون السعوديون الذين التقيناهم خلال الزيارات التي قادتنا إلى ثلاثة من أكبر الجرائد السعودية، الرياض في العاصمة، واليوم في المنطقة الشرقية، وعكاظ في جدة، لم يتحدث الزملاء عن موقف المملكة الذي قد يبدو لهم واضحا ولا يحتاج إلى نقاش، لكنهم استفسروا عن الموقف الرسمي الجزائري الذي اعتبروه غامضا ومتذبذبا وفي النهاية حصلوا على إجابات متباينة حد التناقض وفهموا أن الأمر ليس محل إجماع. لا تتحدث السعودية بشكل رسمي عن دعمها للمعارضة المسلحة في سوريا، وبعض المسؤولين الذين التقيناهم يقولون إن المملكة تقدم مساعدات إنسانية للاجئين ويضعون هذا ضمن فعل الخير، ولا يجري الرد على اتهامات صريحة بإرسال شحنات أسلحة تم اقتناؤها من دول أوروبا الشرقية وتحويلها مباشرة إلى المعارضة السورية، لكن الموقف الرسمي واضح في دعم مساعي الإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد، وقد يجد هذا الإحجام عن الدخول في التفاصيل إلى التردد الذي يطبع موقف الرياض مما يسمى الربيع العربي، فالمملكة بدت متوجسة من التغيير الذي شهدته تونس وبعدها مصر، وقد قدمت اللجوء للرئيس التونسي الهارب زين العابدين بن علي، وفتحت أبوابها للرئيس المصري المخلوع حسني مبارك الذي فضل البقاء في بلده ومواجهة مصيره، لكنها في مقابل ذلك انخرطت بحماس في دعم التمرد على العقيد الراحل معمر القذافي، وهي الآن لاعب محوري على الساحة السورية، وحتى مواقف بعض الأمراء تبدو يمتناقضة، كما هو حال موقف الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكةالمكرمة الذي كتب قصيدة هبوب حيث اعتبر أن ما يسمى الثورات العربية مجرد مؤامرة أمريكية صهيونية لتفتيت البلاد العربية، والمسافة الفاصلة بين هذا الموقف والموقف المذكور للأمير تركي الفيصل، وهو الأخ غير الشقيق للأمير خالد، تبدو بعيدة جدا. التوجس من التغيرات الحاصلة في المنطقة العربية ظاهر في حديث النخب السياسية والإعلامية في السعودية، ويسود الاعتقاد أن ما يجري سيقود حتما إلى الفوضى، وهذه هي الرسالة التي يحملها الخطاب الرسمي ضمنا للرأي العام، لكن القضية السورية مستثناة من هذا الأمر، فهناك تجري مواجهة مع إيران، وسيكون سقوط نظام الأسد بداية النهاية للنفوذ الإيراني المثير للقلق، فالدفاع عن المنطقة الشرقية للسعودية، وهي منطقة غنية بالنفط وتسكنها أعداد كبيرة من الشيعة، يبدأ على الأرض السورية وفي لبنان أيضا حيث تتمتع إيران بنفوذ كبير وتملك ذراعا قوية اسمها حزب الله، ودعم المعارضة السورية هو في مقام دعم السلطة القائمة في البحرين من خلال إرسال القوات السعودية التي تشكل قوات درع الجزيرة لمساعدة ملك البحرين على مواجهة الأزمة التي تفاقمت بفعل تصاعد الاحتجاجات التي تنظمها المعارضة المدعومة من إيران. كل هذه القضايا الحساسة التي تشكل السياسة الإقليمية للسعودية ليست محل نقاش في وسائل الإعلام المحلية، فالتوجه الغالب هو إلى دعم مواقف الحكومة خارجيا، ويبدو أن الشعور بعدم استقرار المحيط يدفع النخب إلى التكاتف من أجل مواجهة الخطر القادم من الجوار، ومن ضمن الذين التقيناهم وجدنا أن قلة قليلة تؤمن بجدوى الحوار مع إيران، فأزمة الثقة تبدو عميقة جدا لا يمكن أن تجسرها تلك الرحلات الكثيرة لشركات الطيران التي تنقل الآلاف من السعوديين إلى مشهد وسائر المدن الإيرانية، ويبدو السعوديون مقتنعون بأن التفاهمات الدولية هي التي ستحسم كل المعارك الإقليمية في النهاية، وحتى هواجس الفوضى يمكن تجاوزها عندما تقرر الدول الكبرى الاتفاق حول إنهاء أزمة أو إعادة ترتيب وضع بلد، ومن هذه الزاوية ينظر رئيس تحرير جريدة عكاظ الدكتور هاشم عبده هاشم إلى الأزمة السورية التي يرى أنها ستنتهي بتفاهم روسي أمريكي وأن مخاطر التفتيت ستنتفي حال التوصل إلى هذا التوافق الدولي، رغم الثمن الباهض الذي ستدفعه تلك البلدان وشعوبها كمقابل للتغيير .